ثم يعود من جديد يتحدث عن الطريق الآخر، شتى: مختلف، طريقين، الطريق الأخرى يبدأ أيضاً بالإمساك للمال {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} (الليل:8) بخل وبدا مستغنياً، الله يقول له: أقرضني وسأرد ما تقدمه أضعافاً مضاعفة، أنا سأوفر ربح ما تقدمه ولا تظلم مثقال ذرة، يقول لك المرشد الفلاني، الأستاذ الفلاني، العالم الفلاني، الله سبحانه وتعالى وعد بأن يخلف ووعد بأن يضاعف الأجر إلى سبعمائة ضعف، فتصرف ذهنك، تبدو وكأنك مستغنياً عن الله، مستغنياً عن الحسنات التي تحتاجها يوم القيامة، مستغنياً عما فيه سعادتك في الدنيا، وعما يترتب عليه نجاتك في الآخرة، تبدو مستغنياً، ، بعض الناس يقول هكذا. عندنا مدرسة تحتاج إلى مساهمة، عندنا مشروع خيري يحتاج إلى مال.. ، بعض الناس يقول هكذا.
إذا ما رأيت نفسك دائماً تبدو وكأنك مستغنياً عندما يحدثك الناس، عندما يدعوك أحد إلى أن تقدم من مالك فتبخل وتظهر مستغنياً، فانظر ما هي النهاية المرسومة لك {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} (الليل:8-9) بالجزاء الحسن فماذا؟ {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} (الليل:10) في الدنيا وفي الآخرة.
ولو يراقب الإنسان الناس لوجدت كثيراً ممن يبخلون بمبالغ بسيطة يبذلون أضعافاً مضاعفة في مجالات أخرى، مصيبة تأتي له، غريم يقم له، سيارة تقتلب عليه، رياح عاصفة تحطم عليه الموز، برد ، الله سبحانه وتعالى يريد أن نفهم بأنه رقيب علينا ويعلم بذوات صدورنا، ولا يمكن لأحد أن يقدم نفسه ذكياً أمام الله، الله سيخرج ما بخلت به أضعافاً مضاعفة في غير طريقه، في غير محله وبالاً عليك، العسرى في الدنيا وفي الآخرة {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} وفي الأخير ماذا؟ هذا الذي بدا مستغنياً وكأنه ليس بحاجة إلى الحسنات، ليس بحاجة إلى ما يقربه إلى الله، ليس بحاجة إلى ما وعد الله به أولياءه من تعظيم في الدنيا ليس بحاجة إلى المردود الإيجابي من المشاريع الخيرية ماذا؟ {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى}(الليل:11). حتى لم يأت القرآن الكريم بعبارة محترمة في الحديث عن هذه النوعية من الناس، {تَرَدَّى} ، عندما يموت، لم يقل: وما يغني عنه ماله إذا مات، تبدو كلمة مات لا تزال مؤدبة محترمة، يعتبر هذا كالحمار الذي يتقلعب مثل الثور الذي يتقلعب {تَرَدَّى} وهوى، عندما يكون مصيرك إلى هلكة، إلى هاوية يقال تردى {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} عندما يهجم عليه الموت فهو في بداية السقوط إلى قعر جهنم {وَمَا يُغْنِي} لا يستطيع أن يدفع عنه {مَالُهُ} هذا الذي بخل به، والذي بدا مستغنياً من أجل حرصه عليه، لا يغني عنه، لا يدفع عنه، لا يجزي عنه ولو كان مثل الأرض كله ذهباً.
قد يدفع عنك غضب الله في هذه الدنيا مبلغ بسيط من المال، قد يكتب الله لك النجاة بمبلغ بسيط من المال، قد تشتري نفسك وتنجي نفسك وترد نفسك من على شفير جهنم بمبلغ من المال تقدمه في سبيل الله، وأنت لا تزال هنا في الدنيا، لكن في الآخرة لو كنت تمتلك الدنيا كلها ذهباً لما قُبِل منك، ولا أمكن أن يغني عنك، ولا أن يدفع ما أنت صائر إليه، وهم يسوقونك إلى أبواب جهنم.
لهذا ينبغي على الإنسان أن يتأمل ويتفهم مثل هذه السورة ناهيك عن غيرها من الآيات، ثم يقول الله ماذا بعد هذه {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} (الليل:13) أنا غني عنكم، وكأنه يقول لنا ولكن من أجلكم أنتم؛ لأنه يعلم أن الواحد منا يوم القيامة سيتمنى أن لو الأرض بكلها ذهب فيقدمها لله فدية لينقذ نفسه، الله يقول لنا ونحن في الدنيا - فهو رحيم بنا - أنقذوا أنفسكم، أنا عندما أقول لكم - حتى بمنطق يبدو منطق عاطفي جداً ومثير للعاطفة {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً}(البقرة: من الآية245) هو عندما يقول وأنت في هذه الدنيا: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً}(البقرة: من الآية245) ؟ من هو الذي سيركن على الله يعطيه قرضة؟ القليل من الناس، والكثير من الناس لا يركن على الله مثلما يركن على أطرف واحد من أصحابه، لكن هذا الذي يقترض منك في الدنيا هو من ستراه يوم القيامة بشكل آخر لو كنت تمتلك الأرض كلها ذهباً لما قبلها منك، وساقتك ملائكته وأنت مغلول بالسلاسل إلى قعر جهنم، هو غني {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} (الليل:15). الشقي ، هذا عمل صالح، وكأنه لا يعنيه، الآخرون هم فقط المكلفون بالأعمال الصالحة، هم المعنيون بأن يتحركوا في مجال الأعمال الصالحة، هو لا يعنيه، هذا مشروع خيري، أعطي فيه.. هذا مشروع صحي، ساهم فيه.. يبدو مستغنيا.
{فَأَنْذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى لا يَصْلاهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} (الليل:12-16) دائماً قد يكون الإنسان مكذباً سواء بصريح العبارة أو مكذباً بموقفه من مثل هذه الآية، يبدو بمظهر المكذب، يبدو موقفه موقف المكذب يحكم عليه بأنه فعلاً مكذب.
دروس من هدي القرآن الكريم
ملزمة " وأنفقوا في سبيل الله "
ألقاها السيد/ حسين بدر الدين الحوثي
بتاريخ: 2/9/2002م
اليمن - صعدة