|| صحافة ||

في ظلّ الحملة العسكرية الشاملة التي تشنّها "إسرائيل" على المدنيين في قطاع غزة، تتواصل عمليات القتل والحصار والتجويع والتدمير، في حرب ممنهجة لا يكترث قادتُها لبلوغ الأوضاع الإنسانية مستويات كارثية غير مسبوقة، وفقاً لما أقرّت به مؤسسات الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان العالمية. ولا تقف إسرائيل عند حدود ذلك، بل تسعى إلى تبرير جرائمها تحت ستار القانون الدولي الإنساني، محاوِلةً تبييض صورتها أمام الرأي العام العالمي. واللافت أن هذا الخطاب لم يعد محصوراً بالبيانات الرسمية أو المواقف السياسية، بل تطور إلى استخدام روايات قانونية تصدر عن شخصيات ومؤسسات، ترى في الحصار والتجويع وسيلة «مشروعة» لـ«الدفاع عن الأمن القومي»، تتوافق، زوراً، مع القانون الدولي الإنساني والاتفاقيات الدولية.

ومن بين أبرز الأمثلة على ذلك، مقال المحامي الإسرائيلي، آفي كوهين، والذي نشرته صحيفة «ما نشمع»؛ إضافة إلى مقال آخر نُشر في صحيفة «إسرائيل اليوم»، يستند إلى رأي قانوني أعده المحامي أبراهام شليف من منتدى «كهلت»، وهو مركز قانوني إسرائيلي معروف؛ والأهم من ما تقدّم، القرار الصادر عن «المحكمة الإسرائيلية العليا»، والذي رفض التماساً قدمته منظمات حقوق الإنسان لإلزام إسرائيل بإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة. ويحاول المقالان المذكوران الترويج لكون منع المساعدات قانونياً باعتبار أن ثمة خطراً حقيقياً متمثلاً بوصولها إلى الفصائل الفلسطينية، وهو ما ذهب إليه شليف الذي قال إن «القانون الدولي يمنع إدخال المساعدات إلى المناطق الواقعة تحت سيطرة حماس».

ويحاول هذا الاستنتاج، غير الأخلاقي وغير القانوني، الاستناد إلى قرار الأمم المتحدة الرقم 1373، والذي يحظر دعم المنظمات الإرهابية بأي موارد؛ علماً أن القرار المذكور لم يكتب ليستخدم ذريعة لتجويع المدنيين، بل جاء لمنع الدول أو الجهات من توفير الدعم المباشر للجماعات المسلحة التي تصنّفها المنظمة الأممية إرهابية. باختصار، ما يحاول شليف فعله هنا هو إيهام القارئ بأن الخيار الوحيد المتاح هو بين دعم الإرهاب أو منع المساعدات، بينما الحقيقة هي أن القانون الدولي يقدم خياراً ثالثًا وواضحاً وملزماً، عنوانه حماية المدنيين.

ومن جهته، يقول كوهين في مقالته إن «القانون لا يُلزم القوة المحتلة إدخال البضائع إذا أثبتت عدم وجود أزمة إنسانية»، وفي ذلك ادّعاء خطير؛ إذ كيف يمكن إدارة تسيطر على المعابر والمياه والكهرباء وإدخال المواد الغذائية، أن تقول إن «الكارثة الإنسانية ليست موجودة»، وهي التي صنعتها وتحافظ عليها وتنمّيها؟ الواقع أن المدنيين يموتون من دون أدوية، والأطفال يأكلون العشب والحشائش إن وجدت، والمستشفيات تتحول إلى مقابر بسبب استهدافها الممنهج، وهو ما أكدته الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان.

وفي الاتجاه «التزييفي» نفسه، يرِد في مقال «إسرائيل اليوم»، أن «المدنيين الذين يرفضون الجلاء ويبقون في مناطق الحصار، يمكن اعتبارهم مرتبطين بالمقاتلين»؛ وهذه العبارة لا تعكس فقط انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي الإنساني، بل تجسّد عقلية تجرّد الإنسان الفلسطيني من إنسانيته، وتضعه في خانة العدو، حتى وإن لم يحمل سلاحاً، فيما القانون الدولي واضح في تأكيده أن المدنيين محميّون حتى في حال بقائهم في مناطق العمليات العسكرية، طالما لم يشاركوا في القتال، ولا يجوز استخدام بقائهم كذريعة لتقييد وصول الغذاء والماء والدواء إليهم.

 

"إسرائيل" تتحمّل المسؤولية القانونية الكاملة تجاه السكان المدنيين في قطاع غزة

وتُعدّ اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 واحداً من أهم أعمدة القانون الدولي الإنساني، وهي تهدف إلى حماية المدنيين في أوقات الحرب والنزاعات المسلحة، خاصة في الأراضي المحتلة. وتنص المادتان 55 و56 منها على أن القوة المحتلة ملزَمة توفير الغذاء والماء والرعاية الطبية للمدنيين، والسماح بدخول المساعدات الإنسانية، بغضّ النظر عما إن كانت المنطقة التي يعيشون فيها تحت سيطرة تنظيم مسلح. وفي هذا الإطار، ورغم أن إسرائيل تؤكد أن «قطاع غزة لم يعُد تحت احتلالها منذ عام 2005»، إلا أن الواقع يشهد على أنها ما تزال تتحكم في المعابر، والهواء، والمياه، والكهرباء، والحدود البرية والبحرية، وما يدخل وما لا يدخل إلى القطاع؛ وبالتالي، فهي تتحمّل المسؤولية القانونية الكاملة تجاه السكان المدنيين هناك.

وكيفما اتّفق، فإنه وفقاً للمادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف، فإنه يُحظر استهداف أو تدمير المواد الغذائية والموارد المائية والمستشفيات والمدارس إذا كانت تخدم السكان المدنيين؛ كما إن استخدام الجوع كوسيلة لإخضاع السكان المدنيين يعدّ جريمة حرب بموجب نظام روما الأساسي لـ«المحكمة الجنائية الدولية».

إلا أنه خلافاً لكلّ تلك النصوص، أصدرت «المحكمة الإسرائيلية العليا»، في 27 آذار 2025، قراراً قضائيًاً يرفض التماساً قدّمته منظمات حقوقية تطالب فيه بإلزام إسرائيل توفير مساعدات إنسانية مباشرة للسكان في قطاع غزة. وجاء هذا القرار بإجماع قضاة المحكمة، وهو ادّعى أن القانون الدولي الإنساني لا يفرض على إسرائيل التزاماً بتوفير المواد الأساسية للمدنيين، وأن المنظمات الإرهابية تستولي على الموارد المخصصة لهم. ولا يمثل ما تَقدّم، مجرّد موقف قانوني عابر، بل هو دعم مؤسساتي رسمي لسياسة الحصار، يعكس تحول النظام القضائي الإسرائيلي إلى غطاء قانوني للسياسات الأشدّ تطرفاً.

ولم يكن رئيس المحكمة العليا، يتسحاق عميت، موارباً عندما قال إن «مشكلة إيصال المساعدات تكمن في أن المنظمات الإرهابية تتغلغل بين المدنيين وتسيطر على المساعدات»، وهو ما يغفل أمرَين أساسيَين: أولهما أن القوة المحتلة هي المسؤولة عن ضمان وصول المساعدات بأمان، وليس ترك المدنيين بلا دواء بذريعة أن هناك تنظيماً مسلحاً في الميدان؛ وثانيهما أن منع المساعدات لا يُضعف حركة «حماس» فقط، بل يؤثّر سلباً وبشكل كارثي في المدنيين أنفسهم. وإذا كان المنطق الإسرائيلي المشار إليه صحيحاً، فإن كلّ دولة يمكنها أن تمنع المساعدات الإنسانية في أي نزاع مسلح بدعوى وجود تنظيم مسلح بين المدنيين، الأمر الذي سيؤدي إلى تدمير كامل للقانون الدولي الإنساني ومقاصده.

كذلك، وصفت المحكمة الالتماس المقدَّم إليها بأنه «يعمل لمصلحة العدو»، بل واعتبرت أن مجرّد تقديمه «خطيئة قومية»، ما يثبت من جديد أن النظام القضائي في إسرائيل تحوّل إلى منصة للخطاب السياسي، وللترويج لسردية غير أخلاقية متناقضة مع مبدأ أساسي في القانون الدولي، هو أن الدفاع عن حقوق الإنسان ليس خيانة، بل واجب، وفقاً لما حاججت به منظمات حقوقية. والواقع أن القانون الدولي الإنساني لم يُكتب لتبرير الجريمة، ولا لتحويل الجوع إلى أداة ضغط سياسية، ولا لجعل المدنيين دروعاً بشرية عرضة للتجويع والقتل، لكن الروايات الإسرائيلية تتعمّد تجاهل كل تلك الحقائق، والترويج لخطأ متعمّد غرضه خدمة سياسة تدميرية ضدّ الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

 

يحيى دبوق: الاخبار اللبنانية