موقع أنصار الله . تقرير | يحيى الشامي

 إلى الواجهة تعود الخلافات العاصفة بين أدوات العدوان على اليمن، بما يعكس حقيقة المشاريع التي تحركهم والأُصَلاء الذين يمولونهم، والخلاف بين الأدوات – وهم في الواقع أقل بكثير من كونهم شركاء- ليس لمجرّد خلافات سطحية، بل لكونه تعبيرًا صريحًا عن انقسام عميق، وهشاشة مشاريع وأجندات خارجية متناحرة تجثم على رقاب المناطق المحتلة، مترامية الأطراف بين السعودية، الإمارات، أمريكا، بريطانيا، ووصولًا إلى مشاركة العدو الإسرائيلي بشكل فاضح، والذي بات يُمارس دور الإدارة الميدانية في مناطق استراتيجية يسيطر عليها هؤلاء المرتزقة.

تصاعد الخلافات داخل ما يُسمى "مجلس القيادة الرئاسي" تبرز حقيقة مُرّة لا تحتاج إلى تحليل، فالكيان الهش ليس سوى وهمٍ مشكل من الخارج وممول منه، يُحاكي شكل الدولة بينما تنخره التناقضات الناتجة عن تبعيته المطلقة لقوى الاحتلال، فـ"الشرعيّة" التي يدّعونها ليست في الواقع سوى ختم مُزيف تُوقّعه الرياض وأبوظبي وواشنطن ولندن، بينما يدفع الشعب اليمني في المناطق المحتلة ثمن ارتهان المرتزقة وعمالتهم، كجزء رخيص لـ"الاستقرار" الذي لا وجود له إلا في تنظيراتهم وخطاباتهم الوردية.

نتذكر أن ما يُسمى "مجلس القيادة" تشكل في أبريل 2022، ليس كحلٍّ يمنيٍّ لصراع داخلي، بل كمشروعٍ للمحتل مُصمّم خصيصًا لتقسيم اليمن إلى قطعٍ تُدار من خارج الحدود. ثمانية أعضاء، كلٌّ منهم يحمل جواز سفرٍ أجنبيًا مختلفًا: فعضو المجلس -وهو رئيس الانتقالي الجنوبي- يُمثّل مشروعًا لفصل الجنوب تحت رعاية الإمارات، وآخرون يسعون لاستعادة "الشرعية" التي لا تعني سوى تفويض الرياض بحكم اليمن، بينما يُدير الغرب مصالحه عبر قواعده العسكرية المُتخفية تحت غطاء "التعاون الأمني". حتى كيان العدو الإسرائيلي -المستفيد من اللعبة منذ بدئها قبل سنوات- أضحى اليوم له يد طولى ووجود فعلي في بعض المناطق المحتلة، طمعاً في مواجهة اليمنيين عن كثب بأدوات المرتزقة، ونقل المعركة إلى أرض اليمنيين أنفسهم، وذلك عن طريق الإشراف على عمليات عسكرية في الجنوب تحت ذريعة "مكافحة الإرهاب"، بينما يُطلق عليها المرتزقة "الشريك الاستراتيجي"! 

ولم تكن قرارات عيدروس الزبيدي الأخيرة سوى انعكاسٍ طبيعيٍّ لهذا الانقسام المُفتعل، فعندما يُصدر قرارات تعيينٍ في وزارات وسلطات محلية، يُطلق عليها أنصاره "استحقاقًا للشراكة الجنوبية"، بينما يُسميها خصومه "تجاوزًا للصلاحيات"، والحقيقة أن كلّ هذه القرارات ليست سوى مسرحيةٍ مُمولة تُلعب أمام الكاميرات، تهدف إلى إخفاء حقيقة أن كلّ فرد في "المجلس" يخدم مصلحة مُختلفة خارج اليمن، فالسعودية تريد أن تُسيطر على الموارد، والإمارات تريد تفتيت الجنوب، والولايات المتحدة تريد قواعدها واستمرار تجارتها وتفتيت المنطقة واليمن بالذات الواقف بقوة في وجه المشاريع الصهيونية في المنطقة، وبريطانيا تحاول استعادة ما تظنه إرثها القديم، وضمان تجارتها البحرية عن طريق فرض وصايتها المطلقة على اليمن، بينما لكيان الصهيوني أهدافه متعددة، من بينها تحقيق انتصار حاسم على اليمنيين بأيادي وأسلحة وجهد غيره، وصولاً إلى إنهاء ما يُسميه التهديد اليمني.

وإذا ما دقّقنا في أسباب تغيّب ستة من أعضاء المجلس بشكلٍ شبه دائم عن الاجتماعات والجلسات، فلن نجد سوى سببًا واحدًا: هم مشغولون بخدمة وحلّ مشاكل أسيادهم الخارجيين،  والاجتماعات التي يُعلَن عنها هي أقل أهمية من المهمة الرئيسية المناط بهم إنجازها، بما يجعلها في المقابل مجرد واجهةٍ لتسويق "الشرعية" أمام العالم، بينما في الخلفية، تُدار مصائر اليمن عبر اتصالات سرية بين ممثلي الأطراف الإقليمية والدولية، حتى التدخل السعودي الأخير لـ"احتواء التصعيد" ليس سوى محاولةٍ يائسة لإعادة ترتيب الأوراق قبل سقوط الكيان بأكمله، والدفع به نحو إعادة ترميم نفسه استعداداً لخوض معركة يجري الترتيب لها بإشراف أمريكي، وبأجندات يحتاجها الصهيوني في توقيت يعنيه في المقام الأول.

الغريب أن الاختلافات التي كان من المفترض أن تبقى خلف الأبواب المغلقة، انطلقت  إلى العلن رغم محاولات الخارج التي لا تتوقف لحلحلتها ومنع تفاقمها، لكنها مع ذلك تتغول وتتحول إلى صدامات علنية، كما تجلى في قرار عيدروس الزبيدي الأخير لتحول الأروقة إلى ساحات احتجاج وصراع، واستخدم التحالف السعودي “الموسم” باستدعاء وحلول لاحتواء المشهد الذي بات خارج السيطرة.

العمق الحقيقي وراء هذه الفوضى ليس في تلك التعيينات والقرارات الحديثة، بقدر ما هو في طبيعة المشروع السياسي المشترك، أو بالأحرى المتناحر، الذي يضع اليمن رهينة للوصايات الخارجية، متبايناً بين مشاريع انفصال، و"استعادة دولة" بطريقة أقرب إلى ملامسة المصالح الخاصة، معتمدًا بصورة أساسية على تدخّلات غربية وصهيونية مباشرة على الأرض، وهذا الأخير أصبح واقعًا لا مفر منه، يسعى العدو الإسرائيلي لاستثماره والولوج منه لضرب اليمن، والإجهاز على أحد أخطر مهدداته الوجودية البارزة حديثاً بقوة متصاعدة.

محللون يشيرون إلى أنّ الانقسامات داخل المجلس "طبيعية"، وأنّ غير الطبيعي هو محاولات البناء عليه لتحقيق أهداف وهمية، وتقمّص شرعية غير متلائمة مع مشاريع وأجندات المجلس الذي وُجد للخارج لا لخدمة الداخل، باعتبار لبناته الأولى التي أسس عليها مشروعاً انقسامياً بامتياز، ففي حين يدّعي البعض أنّ المجلس يهدف إلى "استعادة الدولة"، فإنّ الحقيقة أنّه يسعى ويعمل على تفكيكها بالكامل، فمشروع الجنوب الانفصالي يُحارب وحدة اليمن، ومشروع الرياض يُعيد إنتاج هيمنة القطيع والسلطة الاستبدادية، بينما يُدير الغرب مصالحه عبر شركات أمنية خاصة، ويحاول العدو إسرائيلي تُوسيع نفوذه في الجنوب بكل هدوء، كلّ هذا تحت سقفٍ واحدٍ يُسمى "مجلس القيادة الرئاسي"، وهو سقفٌ لن يصمد طويلاً، وبقاؤه حتى اليوم هو بفضل التدخلات الخارجية والحلول الترقيعية المُقدمة بين حين وآخر.

الواقع الأكثر وضوحاً اليوم أن ما يُسمى "مجلس القيادة الرئاسي" ليس سوى وهمٍ مُصطنع، ومشروع فاشل من البداية، فلا يمكن لكيانٍ مشكل في الخارج ويُدار من الخارج أن يُنتج حكمًا وطنيًا، ولا لمرتزقة يُسيّرون من خارج الحدود أن يُعيدوا بناء دولة، اليمن سيبقى حراً بشعبه العريق، المؤمن بهويته والمعتز بهويته الإيمانية وامتداده العربي والإسلامي الأصيل.