تتمتَّعُ الرقعةُ الجغرافيةُ للأُمَّـة العربية بخصائصَ فريدةٍ من نوعها من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، لا تتوافرُ مثلُها لغيرها في أية نقطة جغرافية على وجهِ الأرض، وهو ما يجعلُها ملبيةً لكل احتياجات سكانها، بل ولاحتياجات غيرهم من الأمم والشعوب المجاورة، ويعد اتصالُ واتساع الجغرافيا العربية من أهم الخصائص التي تتميز بها؛ فقد نتج عن اتساعها احتواؤها على ثروات هائلة، وموارد طبيعية متنوعة، من شأنها أن تنهض بشعوب الأُمَّــة العربية، وتحقّق لها نموًا متسارعًا في مختلف المجالات.

ويرتبط اتساع جغرافية الأُمَّــة العربية باتصالها ببعضها بحيث لا يفصل بينها فاصل طبيعي، وهذا الاتصال جعل منها وَحدة جغرافية واحدة، وما تحتويه هذه الوحدة الجغرافية من ثروات وموارد طبيعة، وتنوع في المناخ، وثروة بشرية هائلة، كُـلُّ ذلك يسمحُ من حَيثُ الأصل لسُكَّانِها تحقيقَ مستوى اجتماعي معيشي متقارب في ظل وحدة سياسية، تجسد الوحدة الجغرافية لهذه الأُمَّــة الواحدة، غير أن بروز الحدود المصطنعة، بين شعوب الأُمَّــة العربية، أَدَّى إلى تباين في مستوى معيشة هذه الشعوب، ومدى تقدمها أَو تخلفها، ومدى استقرارها السياسي، وهذا التباين ناتج عن الاستئثار بالثروات الطبيعية، وعدم تسخيرها لخدمة تقدم وتطور شعوب الأُمَّــة العربية.

والمثال الصارخ للاستئثار بثروة شعوب الأُمَّــة العربية والعبث بها، وحرمان أبنائها من عائداتها، ما هو عليه حال مسمى الدول الخليجية، ذات الكثافة السكانية المنخفضة، وحال بقية الشعوب العربية ذات الكثافة السكانية المرتفعة، المحرومة على مدى العقود الماضية من الاستفادة من عائدات الثروات النفطية التي استحوذت عليها الأنظمة الخليجية، لمصلحة قوى استعمارية أجنبية، ولم يقف الأمر عند حَــدِّ الاستحواذ على ثروات شعوب الأُمَّــة العربية، بل إن جزءًا كَبيرًا من عائداتها استخدم في تدمير كُـلّ فرصة للنهوض اعتمادًا على الموارد الأُخرى غير النفطية لشعوب الأُمَّــة!

ورغم أهميّة الثروات الطبيعية بواصفها واحدة من الخصائص التي تمتاز بها جغرافية الأُمَّــة العربية، فَــإنَّ الأهم منها حتى مع وجود الحدود المصطنعة من جانب القوى الاستعمارية الغربية، أن كُـلّ دولة من الدول العربية تمثل عمقًا جغرافيًّا استراتيجيًّا للدولة أَو للدول الأُخرى المجاورة لها؛ فالدولة التي تقع شرق الجغرافيا العربية يمتد عمقها الجغرافي الاستراتيجي حتى غربها، والدولة التي تقع غرب الجغرافيا العربية يمتد عمقها الجغرافي حتى شرقها، والدولة التي تقع جنوب الجغرافيا العربية يمتد عمقها الجغرافي الاستراتيجي حتى شمالها، والدولة التي تقع في شمال الجغرافية العربية يمتد عمقها الجغرافي حتى جنوبها، ومجموع هذه الجهات يمثل عمقًا استراتيجيًّا مشتركًا لكل الدول العربية.

ولا يمكن لأية قوة على وجه الأرض أن تسيطر على أي جزء من الجغرافيا العربية، بشرط أن تدرك الدول العربية أهميّة العمق الجغرافي الاستراتيجي بالنسبة لها، وأهميته بالنسبة لغيرها، والواضح أن أهميّة وقيمة العمق الاستراتيجي للجغرافيا العربية غير مدرَكة، ولم تستفد منها الدويلات العربية، وليس ذلك فحسب بل إنها عملت على محق ميزة وخاصية العمق الجغرافي الاستراتيجي، بتواجد عشرات القوات العسكرية التابعة للقوى الاستعمارية الغربية، التي حوّلت ذلك العمق الواسع إلى مُجَـرّد عنق خانق، وحتى الدول العربية التي لا تواجد فيها للقواعد العسكرية الغربية في نطاقها الجغرافي؛ فقد ساهمت بشكل كبير في محق تلك الميزة المهمة التي وفّرتها لها الجغرافيا؛ فمصر يمثل السودان عمقًا جغرافيًّا استراتيجيًّا لها من جهة الجنوب، وتمثل ليبيا عمقًا جغرافيًّا استراتيجيًّا لها من جهة الغرب.

ورغم أهميّة هذا العمق الجغرافي بالنسبة لمصر جنوبًا وغربًا في أي نزاع مستقبلي مسلح لها مع الكيان الصهيوني، غير أن الحكومة المصرية، لم يكن لها دور إيجابي مساعد على استقرار الأوضاع في عمقها الجغرافي الجنوبي في السودان، وكذلك الحال لم يكن لمصر دورٌ إيجابي في احتواءِ العُنف المسلح في عُمقها الجغرافي الغربي في لييببا، حَيثُ تفاقَمَت الأوضاعُ الأمنيةُ والمعيشيةُ جَنوبًا وغربًا وخسرت مصر عُمقَها الجغرافي في جهتَيه الجنوبية الغربية، وفوق ذلك أصبح الوضعُ في السودان وليبيا عبئًا ثقيلًا على مصر.

ولم يقتصر الأمر على محق ميزة العمق الاستراتيجي للجغرافيا العربية باستجلاب عشرات القواعد العسكرية الأجنبية، بل إن الدول التي لم تستجلب القوى الأجنبية إلى نطاقها الجغرافي محقت هذه الدولُ ميزةً أُخرى وفّرتها الجغرافيا المجاورة لها، وقد تجلت هذه الميزة بالنسبة لبعض الدول العربية بعد زرع القوى الاستعمارية الغربية الكَيانَ الصهيوني في قلب الجغرافيا العربية، وتنصُّلِ الدول العربية مجتمعةً عن واجباتها في مواجهته، وترك فلسطين العربية فريسةً سهلة لهذا الكيان المجرم.

وحين تمكّن أبناء الشعب الفلسطيني من إجبار الكيان الصهيوني المحتلّ على مغادرة بعض النقاط الجغرافية من الأرض الفلسطينية العربية المحتلّة، ومنها قطاع غزة التي مثلت نواة مهمة لمقاومة الاحتلال الصهيوني وتحرير ما تبقى الأرض المحتلّة؛ وكون غزة تقع على جانب الحدود الشرقية للدولة المصرية، فَــإنَّها تمثل خَطَّ دفاعٍ متقدِّمًا لمصر، ويقتضي المنطق ومعطيات الواقع والمصلحة القومية المصرية أن تكون غزة قوية في مواجهة الكيان الصهيوني، بوصفه العدوَّ الأولَ لشعوب الأُمَّــة العربية ومنها الشعب المصري.

لكن النظام المصري لم يعمل على تعزيزِ وتقوية غزة بوصفها خَطَّ دفاعٍ متقدِّمًا في مواجهة الكيان الصهيوني، بل إن النظامَ المصري وفي مراحلَ مختلفة عمل على إضعاف هذا الخط الدفاعي بما فرضه من حصار على المجاهدين في قطاع غزة، وحين استخدم مياه البحر في تدمير وإغراق الأنفاق الربطة بين الأراضي المصرية وقطاع غزة، التي استفاد منها المجاهدون في التخفيف من وطأة الحصار الصهيوني المطبق على قطاع غزة برًّا وبحرًا وجوًّا، وكان الأولى بالنظام المصري ومن مصلحته دعم وإسناد قطاع غزة بكل الإمْكَانيات المتاحة.

وعلى أقل تقدير كان على النظام المصري عدم الإضرار بالمقاومة في قطاع غزة، لكن الواقع يؤكّـد استمرار التآمر على المقاومة والسعي ليس لإضعافها فقط، بل للقضاء عليها؛ باعتبَار أنها تمثل عدوًّا مشتركًا للنظام المصري والكيان الصهيوني، وأوضح دليل على تآمر النظام المصري على المقاومة وإصراره على القضاء عليها موقفُه المعلَنُ عقب عملية طوفان الأقصى، ناهيك عما خفيَ من مواقفَ معادية للمقاومة ومؤيدة للكيان الصهيوني، وسيدفع النظام المصري حتمًا ثمنَ مواقفه المخزية في القريب العاجل، ولن يعدم الكيان الصهيوني الذريعةَ لذلك.

وينطبق ما سبق على النظام السوري بعد بشار الأسد، فهذا النظام رغم أنه لا يقيم علاقات بشكل معلن مع الكيان الصهيوني، إلَّا أنه في حالة مغازلة وإبداء الرغبة والاستعداد لتقديم كُـلّ ما من شأنه أن يرضى هذا الكيان المجرم، بل والإعلان المتكرّر عن استعداده للتنسيق معه لمواجهة العدوّ المشترك، قاصدًا بذلك حزب الله وإيران! رغم أن إيران الإسلام تمثل امتدادًا طبيعيًّا للعُمق الجغرافي الاستراتيجي لسوريا، لكن نظام الجماعات الإرهابية الوافد على السلطة في دمشق، عمل ولا يزال يعمل على محق الميزة الطبيعة لعُمقه الجغرافي من الجهة الشرقية، الممتد من الأراضي العِراقية وحتى أراضي جمهورية إيران الإسلامية!

ولم يقف انحطاطُ نظام الجماعات الإرهابية في سوريا عند حَــدِّ محق هذه الميزة المهمة للعمق الجغرافي الاستراتيجي لسوريا، بل عمل هذا النظام ولا يزال يعملُ على محق ميزة أكثر أهميّة من الجهة الجنوبية؛ فلبنان وتحديدًا الجنوب المقاوَمَ للكيان الصهيوني، يمثل خَطَّ دفاعٍ متقدِّمًا لسوريا ومن مصلحة أي نظام حاكم فيها تعزيز وتقوية هذا الخط الدفاعي المهم، حتى وإن انتهى الأمر بنظام الجماعات الإرهابية إلى تطبيع كامل مع الكيان الصهيوني، فمن مصلحة سوريا أن تظل مقاومة حزب الله في جنوب لبنان قوية متماسكة، ومن مصلحة سوريا إسناد حزب الله بكل الإمْكَانات وبكل الوسائل المتاحة.

وبعد أن خسرت سوريا عمقها الجغرافي الاستراتيجي شرقًا وخطَّها الدفاعي المتقدم جنوبًا في مواجَهة الكيان الصهيوني بمواقف وتصرُّفات نظام الجماعات الإرهابية الحاكم، أصبحت سوريا فريسةً سهلةً، وأصبحت أجواؤها مفتوحةً لطيران الكيان الصهيوني يعربدُ فيها متى ما يشاء، وأصبحت عاصمتُها دمشق بكل مؤسّساتها ومراكزها السيادية هدفًا مباحًا للطيران الصهيوني، الذي لم يتكلَّف قادته كَثيرًا في البحث عن ذريعة تبرّر ذلك الاستهداف المهين لسيادة الدولة السورية والمذل لنظام الجماعات الإرهابية.