في هذه الذكرى الأليمة العظيمة، ذكرى استشهاد الإمام زيد عليه السلام، نقف إجلالًا أمام قامة من قامات الهدى، وصرخة من صرخات الحق، ورمزٍ خالد من رموز الوعي الإيماني الذي لم يخضع للباطل، ولم يساوم على الحق، ولم يهادن الظلم، مهما اشتدّت قبضته وتزيَّن بلبوس الدِّين.

لم تكن شهادة الإمام زيد عليه السلام حادثًا عابرًا في التاريخ، بل كانت تجليًّا حيًّا لمنهجٍ إلهيّ متجذر في سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وامتدادًا حيًّا لثورة كربلاء.

خرج زيد لا طامعًا في سلطان، ولا ساعيًا إلى حكم، بل داعيًا إلى العدل، وناصرًا للحق، ومجدّدًا لرسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانٍ كانت فيه الكلمة الصادقة تكلّف صاحبها حياته.

لقد رأى الإمام زيد عليه السلام بأمّ عينه كيف انقلبت مفاهيم الإسلام، وكيف تسلّط الفاسدون على رقاب الناس باسم الخلافة، وشاهد كيف صارت الأُمَّــة تبايع الظالم وتسكت عن المنكر وتُغفل وصايا النبي في أهل بيته. عندها أدرك أن الصمتَ خيانة، وأن المهادنةَ رضًا بالظلم، فحمل لواء الجدّ الحسين عليه السلام، ولبّى نداء الحق، وجعل من دمه الطاهر منارةً تضيء للأُمَّـة طريق الخلاص من استعباد الجبابرة.

لقد كان الإمام زيد عليه السلام رجل الموقف، لا يساير الزمن الفاسد ولا يجامل سلطان الجور، وكان في خطابه واضحًا لا يراوغ، شديدًا لا يلين، يصرّح بأن بني أمية غاصبون، وأن هشام بن عبد الملك ليس خليفة، بل طاغيةٌ متسلّط، يحكم بغير حق ويفسد باسم الدين. وكانت كلماته تهزّ النفوس وتوقظ العقول، حتى قال: "أما واللهِ ما كَرِهَ قومٌ قَطُّ حَرَّ السيوف إلا ذلّوا"، فكانت عبارته ثورة في ذاتها، تصنع رجالًا وتؤسس أجيالًا لا ترضى بالهوان.

إن استشهاد الإمام زيد عليه السلام، وما تبعه من صَلْبٍ وتنكيلٍ وسحل، لم يكن النهاية، بل البداية؛ بداية الوعي الثوري، وبداية مدرسة الرفض والكرامة، تلك المدرسة التي لم تكتفِ بالبكاء على الحسين، بل لبّت دعوة زيد إلى العمل، إلى الحركة، إلى المواجهة، إلى الإصلاح الفعلي الذي يبدأ من النفس ويصل إلى الحاكم الظالم.

لقد صلبوه بالكناسة في الكوفة، لكنهم ما استطاعوا أن يُسكتوا صوته؛ لأَنَّ جسده وإن عُلّق على الخشبة، فَــإنَّ روحه ظلّت حيّة في قلوب المؤمنين، وظلّت القلوب ترى في زيد معنى الولاية الصادقة، والولاء الواعي، والانتساب العملي لمدرسة أهل البيت عليهم السلام، لا بالكلام، بل بالفعل.

تحدث الناس عن الرائحة التي كانت تفوح من جسده، عن المسك الذي يُشَمّ من مكان صلبه، عن العنكبوت التي كانت تستره، عن الكرامات التي لحقت بمن تطاول عليه، عن الذي رماه فذهبت عيناه، وعن الذي لعنه فهلك في مكانه، كُـلّ ذلك ليثبت أن دماء آل محمد ليست ككل دم، وأن من سار على طريقهم نال شرف الدنيا والآخرة.

وما أعظم هذه الذكرى حين نجعلها جسرًا بين التاريخ والواقع؛ فالإمام زيد عليه السلام لم يخُض معركته لأجل تلك اللحظة فقط، بل ليكون منارةً يهتدي بها الأحرار في كُـلّ زمان.

إن مظلوميته، صموده، صراحته، تضحياته، كلها رسائل ناطقة إلى كُـلّ أُمَّـة تُظلم، وإلى كُـلّ شعب يُستضعف، وإلى كُـلّ من يواجه طاغية في أي عصر.

إننا حين نُحيي ذكرى زيد، لا نحييها بعباراتٍ طقوسية أَو حزنٍ عاطفي، بل نُحييها بفهم، بموقف، بإصرار على حمل الأمانة التي دفع زيد حياته؛ مِن أجلِها. نُحييها بوعي يجعلنا ندرك أن الصراع بين الحق والباطل لا يزال قائمًا، وأن السكوت عنه ليس من الدين، وأن الولاء الحقيقي لأهل البيت هو اتباعهم في نهجهم العملي، في التضحية، في الموقف، في الجهاد، في رفض الظالم، ونصرة المظلوم.

إنها مناسبة لتجديد العهد مع الشهداء، لنتعلّم منهم كيف يكون الإنسان لله، لا للناس، كيف يكون عبدًا للحق، لا تابعًا للباطل، كيف يصنع من موته حياةً، ومن ألمه نورًا، ومن مظلوميته رسالة.

فطوبى لمن سار على درب زيد، وحمل فكره، وصدح بكلمته، وكان زيديًّا لا بالاسم فقط، بل بالفعل، بالصدق، بالعزم، بالثبات.

وسلامٌ على الإمام زيد، في خشبته، وفي غربته، وفي آلامه، وفي دمه الطاهر الذي روى أرض العراق، فأنبت فيها شجرة الوعي، وفتح بها باب الثورة، ومدّ بها جسر العودة إلى الإسلام المحمدي الأصيل.