تعرَّضت منطقةُ الشرق الأوسط عُمُـومًا والمنطقةُ العربية خُصُوصًا ولا تزال تتعرَّضُ لمؤامرة أمريكية تهدفُ إلى تمزيقِ دُوَلِ هذه المنطقة ليتسنى لها فرضُ سطوتها على كُـلِّ أجزائها بعد التقسيم والاستحواذ على مواردها وثرواتها وتكونُ للكيان الصهيوني سيطرةٌ مطلقةٌ على هذه المنطقة بعد إشغال شعوبها بالصراعات البينية بين التقسيمات الجديدة.
ولقد كانت قوى المقاومة في المنطقة هي العائقَ الوحيدَ أمام تنفيذ الإدارة الأمريكية لمشروعها الذي أعلنت عنه كونداليزا رايس وزيرة خارجية الإدارة الأمريكية منتصف العقد الأول من القرن الحالي، وقد أفشلت قوى المقاومة في فلسطينَ ولبنانَ بدعم وإسناد من الجمهورية الإسلامية الإيرانية ذلك المشروع في حينه، غير أن الإدارةَ الأمريكيةَ وكَيانَها الصهيوني الوظيفي في المنطقة استمَرَّا في التخطيط لتنفيذ مشروع التقسيم تحت مسمى الشرق الأوسط الجديد.
وتعد أخطر محطات هذا المشروع وأعنفها وأكثرها إصرارًا على تنفيذه هي التالية لعملية طوفان الأقصى، فرغم الاستبسال في مواجهة هذا المشروع ميدانيًّا من جانب المقاومة الإسلامية في قطاع غزة وفي الضفة الغربية وجنوب لبنان لما يقرب من عامين، ورغم الإسناد الكبير للمقاومة الإسلامية من جانب جبهات الإسناد في إيران والعراق واليمن، إلا أن التآمر العربي الرسمي والخِذلان الشعبي للمقاومة الإسلامية مكّن العدوَّ من التمادي والإصرار على تنفيذ مشروع التقسيم لإدراكه أن الأُمَّــة الإسلامية عُمُـومًا والعربية خُصُوصًا في أضعف حالاتها؛ بسَببِ التمزق والتشرذم الناتج عن عقود من الهندسة التدميرية الأمريكية.
وحين تولت الإدارة الأمريكية هندسة جريمة التقسيم كان ضمن أهدافها أن يؤدِّيَ هذا التقسيم إلى تحقيق حُلمِ إقامة ما يسمى بـ (إسرائيل الكبرى) من النيل إلى الفرات، ويبدو واضحًا الإصرارُ على تنفيذ هذا المشروع من خلال الاستمرار في تنفيذ أفعال جريمة الإبادة الجماعية بحق سكان قطاع غزة، وهذه الجريمة تولت الإدارة الأمريكية هندسة فصولها حين تبادلت الأدوار مع الكيان الصهيوني الذي تولى التنفيذ المباشر لأفعال الجريمة بالقتل الجماعي المباشر لسكان القطاع وبالحصار والتجويع، وتدمير كافة مقومات الحياة فيه، وفي ذات الوقت عملت الإدارة الأمريكية على تغطية أفعال الجريمة والانتقال بها من فصل لآخر من خلال توفير مساحات زمنية عبر جولات تفاوضية وهمية هدفها تجاوز مأزق الكيان الصهيوني والإدارة الأمريكية.
ولقد اقتضت هندسةُ الإدارة الأمريكية للجريمة أن تروِّجَ للرأي العام عبر ماكينتها الإعلامية الضخمة أنها تلعَبُ دورَ الوسيط مستخدمة لإكمال شكلية هذا الدور بعض الأدوات الإقليمية، ومنذ ولاية بايدن وما تم خلالها من زيارات للمنطقة من جانب وزير خارجيته بلينكن وجولات تفاوض وهمية تجاوزت إحدى عشرة جولة، وحتى ولاية ترامب وزيارات موفدِه ستيف ويتكوف للمنطقة وما تخلَّلها من جولات تفاوض وهمية، كلها تندرج في إطار هندسة الإدارة الأمريكية لأفعال جريمة الإبادة الجماعية، ولم تكن مؤسّسة غزة الإنسانية الصهيوأمريكية آخر تحديثاتها ولا ما أعلنه الكيان الصهيوني من إقامة مدينة إنسانية في جنوب قطاع غزة يجمع فيها أبناء القطاع إما استعدادًا لتهجيرهم أَو اقتراف إبادة جماعية بحقهم.
والواضح من خلال مخرجات الجولات التفاوضية الوهمية المطولة التي هندسها ويتكوف موفد ترامب بمساعدة أدوات إقليمية أن هدفها توفير المزيد من المساحات الزمنية لاستمرار أفعال جريمة الإبادة الجماعية بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة للوصول إلى الهدف النهائي للجريمة وهو إخلاء قطاع غزة من سكانه تنفيذًا للخطة التي سبق أن أعلنها مجرم الإدارة الأمريكية ترامب والتي لم يُخفِ حين إعلانها حسرته على عدم احتلال كيان العدوّ لغزة والسيطرة عليها منذ البداية.
ويبدو أن ما سبق تسريبه قبل عملية طوفان الأقصى بدأت تظهر ملامحُه بوضوح؛ فقد تم تسريب خطة تقضي بشق قناة موازية لقناة السويس تربط خليج العقبة بالبحر المتوسط تسمى قناة بن غوريون وتمر من قطاع غزة، وأنه لكي تكون القناة ممرًا آمنًا للسفن لا بد من إزالة خطر السلاح الموجود بحوزة فصائل المقاومة في القطاع، ولن يتم ذلك إلا بإخلائه تمامًا من سكانه، ورغم اتضاح الصورة في هذا الجانب إلا أن حلقة متعلقة بهذا المخطّط الإجرامي لا تزال مفقودة لم يبادر الكيان الصهيوني والإدارة الأمريكية بالكشف عنها، لكن الأيّام القادمة كفيلة بكشفها.
وتضمنت هندسة الإدارة الأمريكية تهجير أبناء القطاع إلى سيناء المصرية، ورغم الاعتراض المعلن من جانب النظام المصري لكن يبدو من خلال تطور الأحداث أن رفض النظام المصري مُجَـرّد تكتيك هدفه إحاطة موقفه هذا بهالة تغطي الموقف الحقيقي الذي يناور فيه النظام المصري لتحقيق أمرين اثنين: الأول رفع السقف المالي مقابل الموافقة على استقبال أبناء القطاع في سيناء والذي قد يكون مؤقتًا، والأمر الآخر الذي يعد الأشد قبحًا وانحطاطا وهو رفع سقف إراقة الدم الفلسطيني، ليتلقى عقب ذلك النظام المصري مناشدات دولية باستقبال أبناء قطاع غزة كجانب إنساني، وليكون موقف النظام المصري والحال هذه اضطراريًّا؛ استجابة للضغوط الإنسانية وليس اختياريًّا.
وإذا كانت هندسة جريمة قطاع غزة قد اقتضت من الإدارة الأمريكية اختيار سيناء المصرية لتهجير السكان، فَــإنَّ هندسة هذه الإدارة لجريمة تهجير سكان الضفة الغربية اقتضت أن يخصص الأردن مساحة من الأرض لاستقبال أبناء الضفة الغربية في مقابل أن تخصص السعوديّة مساحة من الأرض على حدودها تعويضًا للأردن عن الأرض التي خصصها لسكان الضفة الغربية، وفي مقابل ذلك تلتزم مصر بتعويض السعوديّة عن المساحة التي عوضت بها الأردن.
وبالفعل فقد سبق لمصر التخلي عن جزيرتَي تيران وصنافير على مدخل خليج العقبة للسعوديّة واستكملت الإجراءات الدستورية لتسليم الجزيرتين بشكل رسمي إلى السعوديّة قبل عملية طوفان الأقصى، ويوم أمس أقر الكنيست الصهيوني قانون ضَمِّ الضفة الغربية، وهذا الإجراء لم يأتِ من فراغ بل إن الترتيباتِ جاريةٌ منذ فترة ولاية ترامب السابقة، وليس أمرًا خافيًا ترديدات ترامب وأسفه؛ بسَببِ ضيق مساحة كيان الاحتلال (الإسرائيلي) مقارنة بمساحة دول المنطقة العربية وعدم ممانعته بضَمِّ أجزاء من الضفة الغربية في حينه واعترافه بالقدس عاصمة لكيان الاحتلال ومبادرته بنقل سفارة بلاده إلى مدينة القدس.
وينطبق ذات الأمر على أُسلُـوب هندسة الإدارة الأمريكية لجريمة تفكيك سوريا ولبنان، فقد سبق لترامب أثناءَ فترة رئاسته السابقة الاعتراف بسيادة الكيان الصهيوني على هضبة الجولان العربية السورية المحتلّة، وقد أسندت الإدارة الأمريكية إلى توم براك مهمة تنفيذ مخطّطها الهندسي التدميري لسوريا ولبنان، والمؤسف القول إنه من خلال معطيات الواقع يتضح أن شاغلي المناصب العليا في هذين البلدين يسايرون الموفد الأمريكي ويساعدونه في جريمة تدمير بلديهما، الذي يزعم أن بلاده تلعبُ دورَ الوسيط النزيه بين كيان الاحتلال المعتدي وسوريا ولبنان!