في لحظةٍ يعمّ فيها الصمتُ العربي، وتغيبُ فيها المواقفُ الإسلامية الرسمية، ويتواطأ العالمُ مع آلة الإبادة الصهيونية، تصدح صنعاء من جديد بموقفٍ لا لبس فيه: لن تمرّ سفن تتعامل مع القاتل، ولو اختبأت خلف الأعلام المحايدة.
إنّ إعلان القوات المسلحة اليمنية – في 27 يوليو 2025م – بدء تنفيذ المرحلة الرابعة من الحصار البحري على العدوّ الصهيوني، لم يكن مُجَـرّد تصريحٍ عسكري أَو توجيهٍ تحذيري، بل هو تحوّل نوعي في استراتيجية المواجهة والمساندة، واستكمال متصاعدٌ لمعادلة الردع التي أثبتت فاعليتها منذ انطلاق العدوان على غزة في أُكتوبر 2023.
من غزة إلى البحر: معركة بأفقٍ جديد
في خضم المجازر اليومية التي تطال الأطفال والنساء في غزة، وتحت وطأة الحصار المائي والغذائي والطبي، يُعيد اليمن تعريف مفهوم "الردّ" ليصبح فعلًا مركَزيًّا لا يحدّه الجغرافيا ولا توقفه الحسابات الدبلوماسية. فبموجب هذا البيان، لم تعد موانئ الاحتلال آمنة، ولم تعد الشركات التي تُصرّ على التعامل معه بمنأى عن العقاب، أيًّا كان علمها أَو مكان تواجدها.
هذا القرار يعني شيئًا واحدًا: الكيان الصهيوني لن يبقى ضمن "الدائرة المحمية" من قوانين السوق والحياد البحري. فاليمن ينزع الغطاء الأخلاقي عن كُـلّ كيان يتعاون مع محتلّ، ويُدخله مباشرة في مربع الاستهداف المشروع.
رسالة إلى العالم: لا يمكنكم التعامل مع القاتل والإفلات
ما يُميز هذه المرحلة من الحصار أنها لا تستهدف فقط أدوات الاحتلال، بل تخاطب بنية الاقتصاد العالمي، وتُحرج أصحاب القرار في الشركات الكبرى، الذين يجدون أنفسهم فجأةً مضطرين للمفاضلة: الربح أم السلامة؟ التعامل مع الكيان أم الحفاظ على أساطيلهم؟
هي معركة لا تُخاض بالصواريخ وحدها، بل بمنطق الحق وقوة الإرادَة. فاليمن لم يضع سيفه على رقاب الأبرياء، بل على من يُموّل الحرب، ويُسهّل الحصار، ويوصل البضائع إلى موانئ القتلة.
موقف أخلاقي.. بصوتٍ عسكري
في بيانه، لم يتحدث الجيش اليمني بلغةٍ جافة أَو تقنية، بل بصوتٍ يحمل بين كلماته نبض الأُمَّــة وحرقة المظلومين. لم تكن العبارات محض بيانات عسكرية، بل كانت بمثابة عظة سياسية ونداء وجداني إلى كُـلّ مَن ما يزال يملكُ ذرةَ كرامة. فقد خاطب البيان ليس فقط السفن، بل الضمائر الغارقة في الصمت.
وفي وقتٍ يعتبر فيه كثير من الأنظمة أن فلسطين "قضيةً خارج اختصاصهم"، يثبت اليمن أن هذه القضية هي صلب معركته، وبوصلة ردعه، ومقياس أخلاقيته الثورية.
الردع من طرف المستضعَف
ما يثير الإعجاب والدهشة في آن، أن اليمن، الذي حوصر لعقد من الزمن وتعرض لأبشع أنواع الحرب، لم ينكفئ على جراحه، بل تحوّل إلى نصير حقيقي للمظلومين خارج حدوده. هذه الروح – التي تجعل من غزة جزءًا من صنعاء – هي نفسها التي تقلب الطاولة على كُـلّ حسابات الاستكبار.
ومع كُـلّ مرحلة جديدة من الردع اليمني، تتآكل هالة التفوق الصهيوني، وتتوسع مساحات الهجوم عليه، حتى وهو خلف الموانئ والسفن العابرة.
ختامًا: البحر ليس لهم وحدهم
بهذا البيان، يُعيد اليمن ترسيم خطوط الاشتباك مع الاحتلال، ويقول للعالم أجمع: لا سلام مع قاتل، ولا عبور بحرٍ لمن يُشعل النار في غزة.
إنه درس في العدل قبل أن يكون تهديدًا عسكريًّا، ورسالة إلى المستضعفين: أن الرد ممكن، والانتصار ليس حلمًا، والصوت حين يكون صادقًا، يُسمع ولو من قاع الحصار.