في ذكرى الطوفان الثانية، يعودُ المشهدُ من جديد، لا كذكرى عسكرية فحسب، بل كدرسٍ إيماني وحضاري يعيد تعريف القوة من جذورها، ويفضح زيف الغطرسة التي بنت عليها "إسرائيل" أُسطورة جيشها لعقودٍ طويلة.

لقد جاءت عملية طوفان الأقصى لتقول للعالم أجمع إن القوة الحقيقية لا تُقاس بعدد الصواريخ ولا بحجم الجيوش ولا بتطور التقنيات، بل تُقاس بقدرة الإنسان على تحويل إيمانه إلى فعل، وعقيدته إلى خطة، ويقينه إلى نصرٍ يتحقّق رغم كُـلّ المعادلات.

قوة الإيمان في مواجهة جدار الوهم

ما فعلته حماس في السابع من أُكتوبر لم يكن هجومًا مفاجئًا بقدر ما كان ولادة معادلة جديدة في الصراع.

اختارت أهدافا عسكرية خالصة، ووضعت نصب عينيها قلب المنظومة العسكرية الصهيونية، لا المدنيين.

اقتحمت المعسكرات والمستوطنات المحصّنة، وأدخلت العدوّ في صدمةٍ لم يعرفها منذ قيام كيانه.

ففي ساعاتٍ معدودة، سقطت "هيبة الجيش الذي لا يُقهر"، واحترقت دباباته، وأُسر جنوده ومجنداته من داخل أسواره المحصّنة التي كانت يومًا رمزًا لغطرسته وأمانه.

لم يكن ذلك مُجَـرّد اختراق أمني أَو عسكري، بل اختراق نفسي ومعنوي لجدارٍ من الوهم عاش عليه الكيان الصهيوني لسنوات طويلة، يظن أنه قادر على ردع كُـلّ من يفكر بالاقتراب من حدوده.

لكن حماس فعلت ما لم يتوقعه أحد:

دخلت من حَيثُ لا يتخيل العدوّ أن أحدًا قادر على الدخول، وقاتلت، حَيثُ لا يستطيع هو أن يقاتل بثباتٍ وشجاعة.

حين تفضح الحرب عجز المتغطرسين

وفي المقابل، لم يجد العدوّ – ومعه أمريكا وأُورُوبا – ما يردّون به على تلك الصفعة التاريخية سوى الانتقام من المدنيين.

صبّوا غضبهم على غزة، وأمطروا بيوتها بالقنابل، وهدموا المساجد والمدارس والمستشفيات، ظنًّا منهم أن تدمير المدينة يمكن أن يمحو أثر الهزيمة.

لكن الحقيقة التي حاولوا إخفاءها بين ركام الأبراج هي أن الكيان لم يستطع – رغم ما يمتلكه من ترسانةٍ عسكرية واستخبارية – أن يحرّر رهائنه الذين أُسروا في الطوفان، لا بالحرب ولا بالمداهمات ولا بعمليات الإنزال.

إنه عجزٌ لم يسبق له مثيل في تاريخ المواجهة، كشف عن عمق الهزيمة الأخلاقية قبل العسكرية.

أسئلة لا تزال معلّقة في الوعي العالمي

بعد عامين من الطوفان، لا تزال أسئلة الوعي ماثلة أمام كُـلّ مراقبٍ منصف:

كيف استطاعت حماس اجتياز أسوار المعسكرات المحصّنة، التي كانت تتباهى بها "إسرائيل" كجدارٍ منيع لا يُخترق؟

ولماذا عجزت "إسرائيل" بكل أجهزتها وحلفائها عن استعادة أسراها رغم آلاف الغارات والمداهمات؟

الجواب لا يكمن في العتاد، بل في المعنى؛ فحينما يتحَرّك الإيمان في صدور الرجال، تتحول المستحيلات إلى احتمالات، ثم إلى وقائع تصنع التاريخ.

القوة التي لا تُقاس بالسلاح

القوة التي أظهرتها المقاومة الفلسطينية في الطوفان لم تكن قوة النار، بل قوة العقيدة والوعي والإرادَة.

قوة تعرف متى تضرب، وأين تضرب، ولماذا تضرب.

قوة ترى في الموت شهادةً لا نهاية، وفي المواجهة شرفًا لا مغامرة.

أما القوةُ التي ادّعاها العدوّ فهي قوة عمياء، بلا أخلاق، بلا بُوصلة، بلا قضية.

تُفجّر البيوت وتقتل الأطفال وتغتال الحياة ذاتها لتخفي خوفها من الحقيقة:

أنها تقف أمام عدوٍّ لا يُقهر بالإرهاب؛ لأَنَّه لا يعيش بالخوف، بل بالإيمان.

بين الطوفان والطوفان القادم

سيذكر التاريخ أن الطوفان لم يكن مُجَـرّد معركةٍ عسكرية، بل لحظة انكشاف حضاري بين مشروعين:

مشروعٌ يقاتل ليحيا الإنسان حُرًّا على أرضه، ومشروعٌ يقتل الإنسان ليبقى الاحتلال قائمًا على جثث الأبرياء.

ومهما طال الزمن، ستبقى ذكرى الطوفان الثانية شاهدًا على أن الإيمان حين يُصبح سلاحًا، لا يبقى في حدود الجغرافيا، بل يتحول إلى طاقةٍ تحَرّك كُـلّ الأحرار في الأُمَّــة.

فالقوة ليست فيما تملك من جيوشٍ وأساطيل، بل فيما تملك من قضيةٍ عادلة، وبصيرةٍ نافذة، وروحٍ لا تعرف الانكسار.