موقع أنصار الله . تقرير | يحيى الشامي
شكّلت وتشكل العمليات العسكرية اليمنية المتواصلة بتصاعد والمتصاعدة بقوة فاعلة، إسناداً للمقاومة في غزة وتعزيزاً لموقفها الميداني والسياسي. أمرٌ تكرّسه اليمن يومياً كترجمة لموقف إيماني إنساني صادق من اليوم الأول لطوفان الأقصى وأبعد من ذلك، مثّل الإسناد اليمني اختباراً لشعارات اليمن ونهجه القرآني القائم منذ سنوات. الجديد في هذا الإسناد أنه ومع التطورات الأخيرة تحوّل إلى محورٍ متزايد للتوتر الذي يطال الكيان الإسرائيلي، حيث بات صراخ العدو الصاعد يفوق دوي صافرات الإنذار في فلسطين المحتلة، ربما هي المرّة الأولى التي يجدُ فيها العدوُ نفسه أمام تخل أمريكي واستدارة شبه كاملة، وهي نقطة بالغة الحساسية وتعصف بالحسابات الاستراتيجية، لكن مفاعيلها تتوقف على سؤال: إلى أي مدى يمكن أن يستمر هذا العزوف الأمريكي، وما حدوده، وكيف يتفاعل اللوبي اليهودي داخل أمريكا معه؟ الإجابة قد تطول وليست موضع حديثنا. ما يهمنا هنا رصد وتفكيك المشهد بحدوده الظاهرة على الأقل، والتي تعكس حقيقة وجود أزمة تتفاقم في ظل تحولات جذرية يتخذها الموقف الأمريكي باستقلالية وباعتباراته الخاصة، والذي يبدو وكأنه يدفع كيان العدو الإسرائيلي نحو مواجهة منفردة عجز عن خوضها في السابق، وفشل في تحمل كلفها حتى بمساندة واشنطن. يستعرض هذا التقرير المعضلة الأمنية المستجدة التي يواجهها العدو، في سياق ما يبدو وكأنه اتفاق أمريكي يمني فرضه اليمنيون بقوة موقفهم، وما ترتب عليه من تداعيات داخلية وخارجية.
الواقع الجديد الذي أفرزته التطورات الناتجة عن الاتفاق اليمني الأمريكي يضع كيان العدو الإسرائيلي في عزلة متزايدة في مواجهة التهديد اليمني. فبعد قرار الإدارة الأمريكية بوقف هجماتها على اليمن، أكدت إذاعة جيش العدو أن أي صاروخ يُطلق على الكيان سيتحول إلى "مشكلة إسرائيلية بحتة"، إذ لم تعد هناك حماية وهجمات أمريكية ليلية في اليمن كما كان سابقاً. وهذا يعني أن العدو الإسرائيلي الذي كان يفشل في التصدي للهجمات العسكرية اليمنية في ظل الحماية غير المحدودة من أمريكا، هو اليوم سيجد نفسه وحيداً في مواجهة هذا التهديد، والذي يلحظ فيه بالدرجة الأساس أنه قادم من جبهة تبعد عنه نحو ألفي كيلومتر.
يُجمع المحللون الصهاينة على أن هذه التحولات كشفت عن تداعيات ورسائل سياسية وعسكرية خطيرة، يرى البعض أنها تمثل ضربة أخيرة لتؤكد أن "الاتفاق المعلن بين اليمنيين والأمريكيين، لا يشمل العدو الإسرائيلي، بل يعزله عن المظلة الأميركية" ما أفضى لحقيقة أن العدو الإسرائيلي بات "وحيداً ومحرجاً في هذه الجبهة"، وأن صمته كان ممكناً حين كانت الضربات الأمريكية تستهدف اليمنيين، لكنه الآن "مضطر للرد بنفسه دون غطاء أميركي".
يعتبر مراقبون أن ما يجري هو "إخفاق مزدوج" للتحالف الأمريكي الإسرائيلي، حيث خرجت الولايات المتحدة من حملة عسكرية طويلة كانت تهدف لحماية الاحتلال، في حين بقي العدو الإسرائيلي تحت القصف، في معادلة تكشف عجز هذا التحالف عن ردع اليمنيين، وفشله الذي لا جدال فيه عن تحقيق أهدافه العليا والدنيا. يصف البعض منهم الاتفاق بأنه شكّل "ضربة قاسية لتل أبيب"، لأنها تجد نفسها في مواجهة تهديدات لا تشملها التفاهمات الدولية، ما يكرس عزلة ممتدة لا تقتصر على اليمن، بل تشمل أيضاً ملفات إيران وسوريا وحتى غزة.
العمليات اليمنية أضحت بجلاء معضلة أمنية حقيقية تكشف عجز المنظومات الدفاعية، وانهيار مبدأ الردع الذي لطالما تغنّى به العدو الإسرائيلي، وصولاً الى نتائجها التي أحدثت شرخاً سياسياً ربما غير مسبوق في العلاقات بين كيان العدو الإسرائيلي والولايات المتحدة الأمريكية، فبعد أيام من استهداف مطار اللد "بن غوريون"، أحد أهم المنشآت الحيوية للعدو، وما تسبب به الهجوم من حالة من الذعر الواسع وإغلاق المطار واندفاع "ملايين الإسرائيليين نحو الملاجئ" حسب وسائل إعلام العدو، جاءت تصريحات متناقضة من المسؤولين الصهاينة؛ فبينما أكدت نجاح منظومة "حيتس" الدفاعية الإسرائيلية في اعتراض الصاروخ اليمني، فشلت منظومة "ثاد" الأمريكية للمرة الثانية خلال أسبوع، ما أعاد الجدل حول فعالية هذه الأنظمة أمام الصواريخ الفرط صوتية التي أعلن اليمنيون عن استخدامها.
يؤكد خبراء عسكريون أن مجرد إطلاق الصاروخ ووصوله إلى محيط مطار اللد "بن غوريون" يُعد "اختراقاً نوعياً بحد ذاته"، فلم ينجح الصاروخ في الوصول وحسب، بل "أحدث أضراراً اقتصادية واجتماعية، وهز صورة العدو الإسرائيلي كقوة ردع مفترضة". ما أربك العدو ووضعه من جديد أمام مستوى أعقد من التحديات تمثل "معضلة عسكرية، إذ لا يملك حلاً ميدانياً فعالاً لهذه الضربات، وليس لديه نية لحل سياسي في غزة لوقفها، ما يعني استمرارها في دائرة رد بلا نتيجة، تنعكس على الرأي العام الإسرائيلي المتذمر من حالة الاستنزاف".
المؤكد وفق حديث الخبراء والمتابعين أن العدو الإسرائيلي، الذي هدد عبر جناح المعارضة بالرد بطريقة سيبرانية، أنه عاجز عن خوض هذه الحرب مع اليمنيين الذين يعملون بأساليب بدائية لكنها فعالة. ويضيف الخبراء أن بنك الأهداف في اليمن "مستهلك تقريباً، فمعظم المواقع الإستراتيجية قد دُمرت، لكن اليمنيين ليسوا قوة تقليدية، ولا ينطبق عليهم نموذج الدولة الرقمية"، وأن اليمن "تحوّل إلى لاعب يجابه العدو الإسرائيلي من تحت الأرض، مستثمراً موارد محدودة بعائد عسكري كبير". هذا الوضع يجعل سلاح الجو الصهيوني نفسه، وهو ما يعتمد عليه العدو الإسرائيلي بشكل كبير، يقرّ بوجود "تعقيدات بالغة ومخاطر كبيرة في مواجهة اليمن"، على حد تعبير أحد الطيارين المشاركين في العدوان الأخير على اليمن، الذي أشار إلى أن "عملية الاستعداد لهجوم من هذا النوع على اليمن تحتاج تأهيلاً لسنوات على مستوى السرب، وتستغرق أياماً في عملية التأهيل لشن الهجوم"، مؤكداً على ضرورة "الحذر طوال الطريق ذهاباً وإياباً وأثناء التحليق فوق اليمن كونها دولة لم تهاجم فيها مسبقاً". هذه الصعوبات تعكس أزمة عميقة في بنية الردع لدى كيان العدو الإسرائيلي، خصوصاً وأن اليمنيين أعلنوا صراحة أن اتفاقهم مع واشنطن "لا يشمل وقف استهداف العدو الإسرائيلي، لا براً ولا بحراً، ما يجعل كيان العدو عرضة لهجمات متكررة".
تُظهر التطورات الأخيرة أن الموقف الأمريكي، وخاصة قرار الإدارة بوقف الهجمات في اليمن، مثّل "صفعة" لنتنياهو، وفقاً لتحليلات خبراء إسرائيليين. يعتقد مراقبون أن هذا التحول يعكس غضب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من محاولات نتنياهو "التذاكي" والتلاعب من وراء ظهره. فقد أبلغت إدارة ترامب نتنياهو بأن "قطار ترامب يسير بسرعة قياسية، ولن يراعي فيه حتى إسرائيل، فإما أن تصعد معه وإما أنه سيتركها تلاطم أمواجاً عاتيةً لا قدرة لها على مواجهتها".
تؤكد وجهة النظر هذه أن ترامب "وجه له أول صفعة أفقدت نتنياهو التوازن بإعلان وقف عدوانه على اليمن، ليتركه وحيداً متخبطاً في مواجهة عجزت عنها بلادٌ تمتلك أقوى ترسانة أسلحة في العالم". ويعتبر مراسل الشؤون الخارجية في القناة 12 الصهيونية، عراد نير، أنه "بالنسبة لترامب فإن إسرائيل حالياً هي عامل إزعاج وتضر بمساعيه"، وأن "التركيبة الحالية التي تحفظ حكومة بنيامين نتنياهو لا تسمح له القيام بذلك، وقد سئم دونالد ترامب هذا الوضع".
ويزيد الإحراج أن ترامب، الذي لطالما دعم كيان العدو، بات يمتدح اليمنيين ويعترف بـ "شجاعتهم"، في إشارة قد تنسحب مستقبلاً على المقاومة الفلسطينية، محذراً من أن هذا المزاج الأمريكي قد يشكل ضربة قاسية لكيان العدو الإسرائيلي. ويشير المستشار الاستراتيجي الصهيوني باراك ساري إلى حجم "الهستيريا" في أوساط العدو، قائلاً: "لقد بقينا بمفردنا مقابل اليمنيين وقد قال لك (ترامب) رتبت وضعي، وهم لن يطلقوا النار على السفن الأمريكية. كل الأمور على ما يرام. واليمنيون الآن يهددون ويقولون إنهم سيواصلون إطلاق النار ولا أحد يدرك حجم الهستيريا هنا في إسرائيل".
تنعكس تداعيات العمليات اليمنية والتحولات الإقليمية بشكل مباشر على المستوطن الإسرائيلي واقتصاده، ما يضيف ضغوطاً كبيرة على حكومة نتنياهو. فقد أظهرت استطلاعات الرأي تراجعاً ملحوظاً في شعبية حكومة بنيامين نتنياهو بعد سقوط الصاروخ في مطار اللد "بن غوريون"، في مؤشر على الغضب المتزايد من الأداء السياسي والعسكري.
يعاني الداخل اليهودي من إرهاق واضح بسبب استمرار حالة الطوارئ وتوقف الرحلات الجوية، ما أسفر عن حصار عشرات آلاف الإسرائيليين داخل وخارج الأراضي المحتلة، بسبب تعطل مطار اللد. وتتفاقم المخاوف الاقتصادية، حيث نقلت القناة 12 الصهيونية عن المذيعة كارن مرتسيانو خشية كبيرة من "أن تتوقف شركات الطيران الأجنبية عن القدوم إسرائيل في الصيف"، وأن هناك "مناقشات طارئة لدى وزيرة المواصلات مع مدراء شركات الطيران الإسرائيلية" حول سيناريو كهذا، والذي "حصل مع صاروخ يمني واحد لم ننجح باعتراضه وترك كل هذا الأثر". حديث المذيعة الصهيونية هذا أكده المراسل السياسي للقناة ذاتها، يارون ابراهام، محذراً الجمهور الإسرائيلي من أنه "لن تكون هناك رحلات لشركات أجنبية إلى إسرائيل في الصيف، فالأثر وقع ولا يمكن تلافيه". هذا الواقع المخيّب للصهاينة دفع ممثلي شركات الطيران الإسرائيلية للاجتماع بـ"وزيرة المواصلات" لبحث موسم الصيف الذي كان يجب أن يكون أفضل، لكن بعد الصاروخ اليمني تزايد الطلب على هذه الشركات بعد أن أعلنت أهم الشركات العالمية إلغاء رحلاتها.
على الصعيد العسكري، يعاني الجيش الإسرائيلي من إنهاك واضح بعد حرب طويلة فشلت في تحقيق أهدافها، حيث أنّ "المؤسسة العسكرية الإسرائيلية" تعاني بالفعل من إنهاك واضح، بعد حرب طويلة فشلت في تحقيق أهدافها، وتشير الأرقام إلى أن 12% من جنود الاحتياط يعانون من صدمة ما بعد الحرب، حسب تقارير صحفية حديثة. ما يشير الى حقيقة عجز جيش العدو عن تحقيق حسم عسكري في أي من الجبهات، في الوقت الذي بات فيه الردع الذي تستند إليه "المؤسسة الأمنية" مثقلاً بالفشل، سواء في غزة أو في مواجهة اليمنيين، ما يُضعف مكانة كيان العدو الإسرائيلي إقليمياً ويؤثر على هيبتها عالمياً.
أمام هذه التطورات والسيناريوهات القاتمة التي ترتسم أمام كيان العدو الإسرائيلي، يتجلى عجزه الواضح أمام قدرة اليمنيين على إحداث التأثير والضغط، ليس فقط عسكرياً، ولكن أيضاً سياسياً واقتصادياً.
نتيجة أخرى لا تقل أهمية وهي أنّ العمليات اليمنية أثبتت أن قوة الموقف اليمني هي التي فرضت على الولايات المتحدة التراجع عن دعمها المباشر للعدو في جبهة اليمن. ومع استمرار العدوان على غزة، يبقى اليمن سنداً أقوى وأكثر فاعلية، وحتى لاعباً محورياً في صياغة مستقبل المنطقة.