موقع أنصار الله . تقرير | علي الدرواني

منذ مايقرب من عامين، وغزة تختنق تحت عدوان متوحش وحصار خانق يزداد ضراوة كل يوم. لكنها في الأشهر الأخيرة تجاوزت حدود المأساة لتدخل مرحلة الإبادة البطيئة. اليوم، لا يجد سكانها ما يأكلونه: الأطفال يتضورون جوعًا، النساء تذبل وجوههن في انتظار لقمة تسد الرمق، والمسنون يسقطون في الطرقات دون دواء أو رعاية. كل هذا يحدث تحت سمع وبصر عالم يدّعي التحضر وحقوق الإنسان.

صمت العالم.. تواطؤ أم عجز؟

الصمت العالمي المذهل أمام ما يجري في غزة لم يعد يُفسر فقط بالعجز الدبلوماسي، بل صار أقرب إلى التواطؤ المنظم. لم نعد أمام مجرد تجاهل سياسي، بل أمام تكرار صامت لسيناريوهات إبادة لا ندري إن كان حدث مثلها في التاريخ، وكان العالم يتذرع بعدم المعرفة. أما اليوم، فالعالم يعرف، يرى، ويسمع ويشاهد بثا مباشرا.. لكنه لا يتحرك.
إن المؤسسات الدولية، من مجلس الأمن إلى منظمات الإغاثة، تقف مكتوفة الأيدي أو تُمارس لعبة التصريحات الباردة، تحت الهيمنة الأمريكية والغربية، بينما يموت الناس جوعًا ومرضًا وقصفًا. لم نعد نتحدث عن أزمة إنسانية فحسب، بل فضيحة أخلاقية عالمية.

القتل بالخبز: مجازر أثناء انتظار المساعدات

أعلن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة أن عدد الشهداء الذين ارتقوا أثناء انتظار المساعدات الغذائية منذ 27 مايو وحتى 20 يوليو بلغ 995 شهيدًا و6011 جريحًا، و45 مفقودًا. في الساعات الـ24 الأخيرة فقط، استشهد 130 فلسطينيًا، وأصيب 495 آخرون، بينهم 92 شهيدًا وأكثر من 150 مصابًا من المدنيين الذين كانوا ينتظرون المساعدات الغذائية.
وزارة الصحة في غزة وصفت هذه الجرائم بأنها "مجزرة صامتة"، مشيرة إلى أن عدد شهداء المجاعة وسوء التغذية بلغ 86 شهيدًا، 76 منهم أطفال، خلال أيام قليلة، بينهم 18 طفلاً في 24 ساعة فقط.
وتحدثت تقارير عن مشاهد مأساوية، أبرزها استشهاد طفل بين ذراعي والده في منطقة زكيم شمال قطاع غزة، بينما كانا بانتظار كيس دقيق قد لا يصل أبدًا.

إبادة ممنهجة، ومساعدات متكدسة

فيما يُمنع إدخال الغذاء والدواء، أكدت حركة المقاومة الإسلامية حماس أن آلاف الأطنان من المساعدات لا تزال متكدسة خلف معبر رفح، مشيرة إلى أن ما يجري في غزة "إبادة جماعية باستخدام أدوات الجوع والعطش والقصف". ودعت في بيانها إلى فتح فوري للمعابر، واعتبرت الصمت الدولي على وفاة عشرات الأطفال بالجوع "وصمة عار على جبين الإنسانية".
كما حمّلت فصائل المقاومة الفلسطينية، في بيان مشترك، حكومة نتنياهو والولايات المتحدة المسؤولية الكاملة عن "مشروع الإبادة والتهجير"، مطالبة الشعوب العربية والإسلامية وأحرار العالم بالخروج إلى الشوارع، والضغط لكسر الحصار ووقف العدوان.
في شهادة مروعة، وثّق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان حادثة إطلاق نار من قوات الاحتلال على مدنيين جائعين تم استدراجهم إلى شاحنات مساعدات، ثم قُتلوا عمدًا. واعتبر المرصد أن الاحتلال يستخدم نقاط توزيع المساعدات كـ"مصائد موت"، في إطار "نمط وحشي للإبادة الجماعية".

الأمم المتحدة: مليون طفل يتضورون جوعًا

في تقارير صادمة، اتهمت وكالة الأونروا سلطات الاحتلال الإسرائيلي بتجويع مليون طفل فلسطيني، معتبرة أن سكان غزة يواجهون مجاعةً "مُهندسة عمدًا"، مع منع الغذاء والدواء والاحتياجات المعيشية الأساسية. وأكدت الوكالة أن 95% من سكان القطاع يعانون من سوء تغذية بدرجات متفاوتة، وسجلت 5,500 حالة سوء تغذية حادّ بين الأطفال، و800 حالة حرجة خلال شهرين فقط.

وسائل الإعلام بين التغاضي والتزييف

لا نعفي هنا الإعلام العالمي، والذي لعب دورًا سلبيًا في صناعة وتبرير هذا الصمت. فبينما كانت تُرتكب المجازر، والاهوال التي يشيب لها الولدان، كانت وسائل الإعلام ووكالات الأنباء العالمية تدفن الأخبار الحقيقية تحت ركام التبريرات والتصريحات والعنتريات، واحيانا يتم تسريبٌ مع دخان المفاوضات الكاذبة والخادعة، وفي احسن الاحوال كانت المجازر تعرض بشكل مجتزأ، فقط تسمح الرقابة العالمية بنشر نصف الحقيقة، حتى تظهر الضحية كجاني، أحيانا، يتهم الفلسطيني بأنه السبب، تُتهم المقاومة بأنها من كانت وراء ذلك، وأما الجاني المجرم فيتم تقديمه كمدافع عن النفس. يتم تصوير مقاومة المحاصَرين كعدوان، وتحولت الجريمة إلى صراع متكافئ، رغم فارق الإمكانات، والبون الشاسع بين إرادة الإجرام والاحتلال، وإرادة التحرر، ما يعكس تحيّزًا فجًّا يكشف عن انهيار المعايير المهنية والإنسانية.

رسالة إلى الضمير الإنساني

ما يحدث في غزة لم يعد شأناً فلسطينياً فقط، فقد تعدى فلسطين، وأصبح يمثل أكبر امتحان لكل إنسان. اليوم، يقف الضمير العالمي أمام اختبار مروع: هل سيتحرك لحماية حياة الأبرياء؟ أم سيواصل دوره كمتفرج بارد، يعيد إنتاج بيانات الشجب دون أن يمد يد العون الى المستضعفين، او لردع المستكبرين?
لا أحد يطلب من العالم المستحيل. المطلوب هو الحد الأدنى من الإنسانية: فتح المعابر، إدخال المساعدات، وقف القتل، محاسبة المجرمين. لكن حتى هذا الحد الأدنى صار رفاهية محرومة على أهل غزة.

أين العرب والمسلمون؟

غزة ليست جزيرة نائية في عرض المحيط، وليست أرضًا منسية في أقصى الأرض، إنها قطعة من قلب الأمة، محاطة بالعرب من كل اتجاه، ويحيط بها أكثر من ملياري مسلم يؤمنون أن فلسطين هي قضية مقدسة، وأن المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين. خلف حدودها المغلقة يقف أكثر من 22 دولة عربية، وحولها من بعيد أكثر من ملياري مسلم يشتركون معها في العقيدة والمصير. ومع ذلك، تُباد غزة اليوم بالصمت نفسه الذي يُفترض أنه غير ممكن في جسدٍ حي. يُقتل أطفالها، وتُحاصر نساؤها، ويُمنع عنها الغذاء والدواء، ولا نرى إلا بيانات باهتة، وخطبًا متأخرة، ومواقف رمادية. لم تُفعّل أوراق الضغط، ولم تُفتح المعابر، ولم يُستخدم سلاح النفط، ولا الإعلام، ولا الاقتصاد، ولا السياسة. وكأن الأمة التي تمتلك كل أدوات القوة، قد رضيت أن تُختصر إلى هامش كتاب الإبادة الصهيونية.

العرب والمسلمون يمتلكون مفاتيح كثيرة، ولن اذكر من بينها إعلان الحرب، لانهم لم يعودوا أهل حرب، فقد فُتنوا بالغانيات الراقصات الفاجرات، واستحبوا العمى على الهدى، لكن سنُذكِّرهم ببعض الأدوات غير المكلفة، والأساليب غير ذات الشوكة، والطرق التي لا يرون فيها إلا السلامة، سلامة الاجساد، وأما الأرواح والضمائر فليسوا من أهلها، من بين تلك الخيارات:
* فتح المعابر بقرار سيادي.
* الضغط الاقتصادي والسياسي على الداعمين للعدوان.
* سحب السفراء، أو على الأقل تهديد العلاقات.
* إطلاق حملة إغاثة عربية إسلامية عاجلة.
لكن شيئًا من ذلك لم يحدث، وكأنّهم يتفرجون على نكبة جديدة تُبثّ مباشرة.
إن الصمت العربي والإسلامي لا يمكن النظر إليه كمجرد خذلان، فقد أصبح يُفسَّر في الشارع الفلسطيني كنوع من التواطؤ العلني، أو الاشتراك غير المباشر في ترك غزة تموت ببطء. هذه ليست مبالغة، بل مرآة لما يشعر به كل طفل يُدفن دون أن يَسمع صوتًا من أمته. قالها أبو عبيدة: أنتم خصومنا أمام الله، خصوم كل يتيم وجريح ومجوع.
إنها ليست فقط صرخة من غزة، بل إدانة كبرى لأمة غابت حين كان يُفترض بها أن تقود.