هناك في قطاع غزة المحاصر، تتكشف فصول مأساة إنسانية غير مسبوقة، حيث بات الجوع سلاحاً يفتك بالأجساد والأرواح، ويُحيل حياة الأطفال إلى تراجيديا حقيقية. إنها قصة وطن يُذبح ببطء تحت أنظار العالم، حيث تتحول الأيادي الصغيرة إلى أيادٍ تحمل أعباء عائلات بأكملها، فيما تتردد صرخات البراءة التي لا تجد صدىً في أروقة الصمت الدولي.

ومع ذلك، وبين ثنايا هذه التراجيديا المؤلمة، تبرز ملحمة الصمود والإيمان التي يسطرها رجال "حجارة داوود" بوجه "عربات جدعون". إنها قصة مقاومة لا تعرف اليأس، تتسلح بالإيمان المطلق بمعية الله، حيث أوقعت المئات من جنود العدو بين قتيل وجريح، ورفعت منسوب أعداد المنتحرين بينهم لهول ما يواجهونه من صمود وعزيمة.

 

"ليان".. طفولة مسروقة وأمومة قسرية

في هذا العدوان الصهيو-أمريكي الظالم الذي لا يعرف الرحمة، تُظهر الطفلة "ليان" بطولة مأساوية تتجسد فيها آلام غزة. فقدت ليان والدتها، السند والحنان، لتجد نفسها -بين عشية وضحاها- أماً لأربعة أطفال صغار: تولين، يوسف، زاهر، وميار، بالإضافة إلى إخوتها الكبار. وبصرخة طفل سلبت منه براءته، وتحول إلى أب وأم قسراً في عالم لا يرحم، وبصوت خافت يعتصره الألم، يحكي "محمد" شقيق "ليان" عن دوره الجديد والمؤلم: "أنا أمي استشهدت وتركت لي أطفال صغار، يعني تركت لي ليان ويوسف وزاهر وميار، وإخوتي حتى كمان الكبار تركت لي إياهم، وأنا اللي بعتني فيهم، أنا اللي بغسلهم، وأنا اللي بطعميهم، أنا اللي بعتني فيهم في كل شيء". 

تمتد معاناة الطفل "محمد" من رعاية إخوته لتشمل صراعاً يومياً مع نار الحطب لإعداد الطعام، في ظل غياب أبسط مقومات الحياة من وقود وغاز. يعبر محمد عن خوفه قائلاً: "أنا نفسي بجرة غاز أحسن من الحطب هذا، إنها يعني لو أختي قاعدة جنبيه وتحركت، بتقع عليها المية وبتحرق. أنا نفسي أخلص من النار هذه، بدي أحد يجيب لي جرة غاز". استغاثة تعكس حجم الخطر الذي يحدق بـ "ليان" وبإخوتها الصغار كل يوم، فكل وجبة تُعد بحطب النار هي مغامرة قد تؤدي إلى كارثة.

وفي ظل هذا الواقع المرير، تظل ذكرى الأم الشهيدة جرحاً غائراً في نفوس الأطفال، خاصة الأخ الصغير يوسف، الذي يرفض تصديق الفقدان. في مشهد يجسد عمق الصدمة النفسية التي يعيشها أطفال غزة، صغار لا يستوعبون معنى الموت والفقدان، تقول أخت محمد: "أنا أمي استشهدت في الحرب هذه، يعني بنضل نعيط بدي أمي بدي أمي، هاي أخويا يوسف يضل يعيط بدي ماما بدي ماما، مش قادرة أقنعه إنه ماما استشهدت، يعني هو طفل صغير".

وفي عالمهم الخاص، يبرز "حمودة" كبطل صغير يعين "ليان"، ويطبخ لهم، ويطعمهم، ويغسل لهم، في إشارة إلى التكافل والصمود الذي يخلقه الأطفال لمواجهة قسوة الحياة. تختتم ليان ترجمة الحكاية بأمنية بسيطة تختزل فيها حلم العودة إلى الحياة الطبيعية برغبة في استعادة البراءة والطفولة التي سُحقت تحت أنقاض الحرب: "احنا اشتقنا أصلاً لماما، يا ريت نروح على غزة وأرجع لمدرستي، وأرجع لجيراني، دار جيراني، ألعب معاهم، أرجع لمدرستي، أشوف دارنا كيف هي يعني".

 

إحصائيات كارثية.. أرقام تتجاوز حدود العقل

قصة "ليان" هي واحدة من آلاف القصص التي تروي صمود أطفال غزة، حيث المشهد لم يعد يُروى بالكلمات، بل يُرى في عيون طفل ناحل، وابتسامة رضيع أنهكه الجوع حتى بات لا يقوى على البكاء. بل لم يعد المجوعون في قطاع غزة يعدون الأيام، بل الساعات أو ربما الدقائق قبل أن يخروا من الجوع. يفتك الجوع بأكثر من 2.5 مليون نسمة يعيشون في بقعة جغرافية ساحلية صغيرة تُسمى قطاع غزة، تتعرض منذ قرابة العامين لحرب إبادة جماعية. وبحسب مسنين وكبار سن، فإن هذه المجاعة التي يتعرض لها سكان قطاع غزة لم تمر عليهم طوال حياتهم، حتى خلال الحروب الكبرى عامي 1948-1967، التي أكلوا خلالها الخبز الناشف غير المتوفر حالياً.

تقول السيدة هنادي إسماعيل، أم لستة أطفال، لـ"قدس برس": "صحيح أنّ المجاعة الأولى خلال هذه الحرب قبل عام تقريباً كانت صعبة جداً، لا سيما علينا في شمال قطاع غزة، لكن كان هناك قليل من الطحين، الأرز، والعدس، أما الآن فلا يوجد أي شيء، وإن وُجد فلا يمكننا شراؤه لارتفاع أسعاره". وتضيف: "أمس نام أطفالي جوعى وأنا أُصبّرهم، وصباح اليوم طهوت لهم قليلاً من العدس، لكنهم لم يشبعوا، على أمل أن نحصل على شيء من الطعام خلال الساعات القادمة". حال السيدة إسماعيل يشبه حال آلاف النساء اللاتي لا يجدن قوت أطفالهن، في حين يقف الرجال عاجزين عن فعل أي شيء بسبب المجاعة التي تضرب القطاع المحاصر.

أمام هذه المشاهد المؤلمة، والصور التي لا تتسع لها العقول ولا تحتملها الضمائر، كما وصفها مسؤول أممي، يقول مؤكداً أن الكلمات تعجز عن وصف الأوضاع هناك، حيث تتكشف فصول الكارثة الإنسانية على مرأى ومسمع العالم، حيث تُشير التقارير الصادرة عن مدير شؤون "الأونروا" في قطاع غزة إلى أن كل يوم يشهد مقتل ما يعادل صفاً دراسياً كاملاً من أطفال غزة.

تقرير "الأونروا"، يرسم لوحة أشد سواداً للوضع الإنساني، فبين شهري مارس ومايو فقط، قضى أكثر من 50 طفلاً جوعاً. مؤكداً "أرواح بريئة تدفع ثمناً باهظاً". منذ أكثر من 21 شهراً، ارتفعت حصيلة الأطفال الشهداء إلى ما يزيد على 18 ألف طفل، وصل منهم إلى المستشفيات نحو 16 ألفاً، وفقاً للمصادر الطبية في غزة. وقد لوحظ ازديادٌ وتدهورٌ في حالات سوء التغذية بين الأطفال بشكل كبير بعد انهيار الهدنة في شهر مارس. ومنذ يناير الماضي، فحصت "الأونروا" أكثر من 242 ألف طفل في غزة، واكتشفت أن واحداً من كل ثلاثة أطفال يعاني من سوء التغذية. تعليقاً على هذه الأوضاع، قال أحد العاملين في المجال الإنساني: "لم أتخيل يوماً أن أرى على أرض الواقع حالات بهذه الكمية والنوعية".

 

حصار التجويع جريمة مكتملة الأركان

إن ما يحدث في غزة هو مأساة إنسانية تتكشف فصولها على مرأى ومسمع العالم. الكيان الغاصب، بصفته قوة احتلال، ملزم بضمان حصول الناس على الغذاء والإمدادات الطبية، لكن هذا لا يحدث. إذ يتعرض المدنيون للموت والإصابة والتهجير القسري، ويُجردون من كرامتهم. المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، في بيان ، أكد أن الأقسام الطارئة في المستشفيات تستقبل يومياً أعداداً متزايدة من المدنيين، وخاصة الأطفال، الذين يعانون من الإجهاد والإعياء الشديد بسبب الجوع، مشيراً إلى أن المئات منهم قد يموتون في أي لحظة نتيجة سوء التغذية وتدهور حالتهم الصحية.

وسجلت وزارة الصحة في غزة خلال الساعات الـ24 الماضية وفاة 19 شخصا بسبب الجوع، بينهم الطفلة رزان أبو زاهر (4 أعوام) التي قضت نصف عمرها القصير تحت نيران الحرب، لتنضم إلى قائمة ضحايا المجاعة التي تشمل حتى الآن 76 طفلا جراء سوء التغذية.

وأعلن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، أمس الأحد، ارتفاع عدد الضحايا من الفلسطينيين الذين يحاولون الوصول للغذاء بمراكز “المساعدات الأمريكية الإسرائيلية” إلى 995 شهيدًا و6011 مصابًا، و45 مفقودا منذ 27 مايو/ أيار الماضي.

 

وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي، فقد بلغ عدد الشهداء الذين قضوا بسبب نقص الغذاء والدواء 620، بينهم 69 طفلاً، في حين لا يزال نحو 650 ألف طفل معرضين للموت الوشيك بفعل الجوع وانعدام الغذاء. هذه الأرقام تأتي في ظل إغلاق الاحتلال الكامل للمعابر، ومنع دخول أكثر من 76,450 شاحنة مساعدات إنسانية ووقود منذ بدء الحصار، أي منذ 142 يوماً.

لم تكتفِ قوات العدو بفرض الحصار، بل استهدفت بشكل مباشر مراكز توزيع المساعدات، حيث استشهد 995 فلسطينياً أثناء محاولتهم الحصول على الغذاء، وأصيب أكثر6011 شخصا، و45 مفقودا منذ 27 مايو/ أيار الماضي.  كما تم استهداف 57 مركز مساعدات، وتعرضت 121 قافلة مساعدات و42 تكية طعام لهجمات متكررة. في هذا السياق، أشار المتحدث باسم الدفاع المدني في غزة، محمود بصل، إلى أن العديد من العائلات لم تتذوق الطعام منذ أيام، فيما تعيش طواقم الإنقاذ نفسها على المياه فقط، في ظل انعدام المواد الغذائية، وغياب أي تحرك دولي فعّال.

وأكد "بصل" أن ما يُسمى "مراكز المساعدات" ليست سوى مصائد موت تُدار سياسياً لتصفية ما تبقى من أرواح تحت شعار "الدعم الإنساني"، وهو ما يتوافق مع تحذيرات سابقة من استخدام المساعدات كأداة للإبادة. ومن جهته، حمّل المكتب الإعلامي الاحتلال الإسرائيلي والدول المتورطة في الحرب، وعلى رأسها الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا، المسؤولية المباشرة عن جرائم التجويع، مشدداً على أن الصمت، والدعم العسكري والسياسي، شراكة في القتل الجماعي.

 

تواطؤ دولي وصمت قاتل

إن الكارثة الإنسانية في غزة تتفاقم وسط صمت دولي وتواطؤ مفضوح. المكتب الإعلامي الحكومي في بيانه رقم (894) الصادر بتاريخ 18 يوليو 2025، أعرب عن صدمته وغضبه الشديد من الموقف الأوروبي الرسمي، الذي كرس "العجز الأخلاقي والسياسي للاتحاد الأوروبي في وجه الإبادة الجماعية التي ترتكبها سلطات العدو الإسرائيلي في قطاع غزة منذ 650 يوماً متواصلاً".

لقد تجاوز الاتحاد الأوروبي كل الخطوط الحمراء، وهو يشاهد 2.4 مليون من السكان المدنيين الفلسطينيين يُذبحون ويُجَوّعون ويُهَجّرون بلا رحمة، دون أن يفعل آلية محاسبة واحدة، رغم أن سلطات الاحتلال تنتهك -بوضوح- المادة المتعلقة بحقوق الإنسان في اتفاقية الشراكة الأوروبية. إن الاكتفاء بـ"المراقبة عن كثب" هو خيانة للقيم الإنسانية، وغياب أي إجراء عقابي هو ضوء أخضر لاستمرار المجازر.

المكتب الإعلامي الحكومي يُحَمِّل الاتحاد الأوروبي "المسؤولية السياسية والأخلاقية الكاملة" عن هذه الجريمة المستمرة، ويدعو إلى وقف "سياسة النفاق والتواطؤ والازدواجية"، والتحرك الفوري والفعلي لتعليق اتفاقية الشراكة، ومحاسبة الاحتلال على جرائمه، وتقديم مجرمي الحرب إلى المحاكمات العادلة.

 

"حجارة داوود" ملحمة الصمود والإيمان

في ظل هذا المشهد القاتم، يبرز أبو عبيدة ليُسلّط الضوء على ملحمة الصمود والمقاومة. فقد واجهت المقاومة عملية العدو المسماة "عربات جدعون" – وهي محاولة لـ"إسقاط خرافات توراتية لإضفاء قداسة مزيفة على معركته العنصرية النازية التي لا تشبه سوى أفعال الشياطين وممارسات العصابات القذرة الجبانة" – بسلسلة عمليات "حجارة داوود". هذا الاستلهام من قصة داوود عليه السلام في مواجهة جالوت ليس مجرد رمزية، بل هو تجسيد للإيمان الذي يمتلكه المقاومون، إيمانٌ يُسدد رميهم، ويجعل "معية الله" حاضرة في كل خطوة.

النتائج الميدانية لهذه المقاومة كانت مذهلة، فـ"أوقعنا خلال هذه الأشهر المئات من جنود العدو بين قتيل وجريح، والآلاف من المصابين بالأمراض النفسية والصدمات". بل وصل الأمر إلى "تزايد أعداد جنود العدو المنتحرين، لهول ما يمارسون من أفعال قذرة دموية، ولعظم ما يواجهون من مقاومة محفوفة بمعية الله وجنده". هذه الأرقام والتفاصيل ليست مجرد إحصائيات، بل هي شهادة على صمود لا يُقهر، ونجاح في إلحاق الهزيمة النفسية والعسكرية بـ"العدو".

كما تطرق إلى "تكتيكات المقاومة وأساليبها الجديدة والمتنوعة"، بعد "استخلاص العبر من أطول حرب ومواجهة في تاريخ شعبنا". فالمجاهدين ينفذون "عمليات نوعية بطولية فريدة" باستهداف الآليات، والالتحام المباشر، وقنص الجنود، وتفجير المباني، والكمائن المركبة، والاغارات على قوات "العدو". هذه المشاهد، التي "شاهد العالم أبطالنا وهم يعتلون آليات العدو في خان يونس ويصلون للجنود المحتلين من نقطة الصفر"، تبرهن على شجاعة وإقدام غير مسبوقين.

ويؤكد على مبدأ أساسي للمقاومة، وهو "معية الله عز وجل"، التي "تسدد رمي المقاومين". ولذلك، كانت "الله أكبر حاضره"، وكذا الآية الكريمة "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى". هذه الروحانية ليست مجرد شعارات، بل هي وقود يدفع المقاومين لخوض "مواجهة غير متكافئة بإيمان منقطع النظير، وبأس شديد، وعزيمة لا تلين، بقوة الله ومنته وتوفيقه".

وفي الختام، يشدد أبو عبيدة على أن "هناك حرباً طويلة" تنتظر الجميع، لكنها حرب نتائجها محسومة بالنسبة للمقاومة: "إما نصر أو استشهاد، وفي الحالتين المقاوم منتصر". هذه الكلمات ليست تعبيراً عن التمني، بل عن إيمان عميق بقضية عادلة، وبنصرٍ آتٍ لا محالة، مهما طال أمد العدوان، ومهما بلغ حجم الخذلان. فمعية الله هي الضمان، و"الله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون".