موقع أنصار الله . تقرير | يحيى الشامي

لم تعد رافعات ميناء أم الرشراش العملاقة ترفع الحاويات، بل باتت مجرد ديكور خلفي لمشروع أكثر سخرية تناوله الإعلام العبري على نطاق واسع في سياق هازئ بالعجز الصهيوني، لكنه جاد في فحوى وحيثيات القرار المطروح للنقاش في الدوائر الرسمية، بعناوين من قبيل تحويل المدينة الساحلية الاستراتيجية إلى "كازينو حكومي" بائس، في محاولة يائسة لسد فجوات التمويل التي أحدثها الحصار اليمني.

المشهد الذي يرسمهُ الاعلام العبري يلخص حجم الهزيمة الاستراتيجية التي مُني بها كيان العدو الإسرائيلي، ويكشفُ عن فصول الانهيار المتسارع لميناء أم الرشراش (إيلات) المحتل، الذي كان يوصف يومًا بأنه بوابة "إسرائيل" إلى آسيا، اليوم، وعلى وقع مفاعيل قرار الحظر اليمني للملاحة الصهيونية، والضربات اليمنية الدقيقة والمستمرة إسنادًا لغزة، يدخل فعلياً في حالة موت سريري إلى أجل يقرره اليمن بتوقيت غزة.

تجاوز الأمر مسألة التكهنات أو التحليلات، إلى تكريس حقيقة دامغة اعترف بها إعلام العدو ومسؤولوه. صحيفة "معاريف" الإسرائيلية كانت السباقة في الكشف عن التوجه الرسمي الصهيوني لتحويل أم الرشراش إلى وجهة للقمار، حيث نقلت عن نائب رئيس البلدية تأكيده أن المشروع ليس للترفيه، بل هو "ضرورة اقتصادية ملحّة" لإنقاذ ميزانية المدينة المنهارة، بعد أن شلّت العمليات اليمنية الميناء بشكل شبه كامل، ليس في الفترة الأخيرة، ولكن منذ بدء عمليات الحظر اليمني والقصف الصاروخي.

هذا الشلل أكدته الأرقام الصادمة التي تداولتها وسائل الإعلام الإسرائيلية والغربية على حد سواء، فقد كشفت "معاريف" أن نشاط الميناء انخفض بنسبة تصل إلى 90%، وتراكمت عليه الديون لدرجة أن حساباته المصرفية تعرضت للحجز، ما يهدد بإغلاقه بشكل نهائي، وهو ما أكده موقع "أويل برايس" البريطاني المتخصص في شؤون الطاقة، الذي أشار إلى أن سلطات العدو الإسرائيلي تواجه معضلة وجودية: إما مواصلة تشغيل الميناء رغم نزيف الخسائر، أو التخلي عن ممر البحر الأحمر الحيوي بالكامل.

الضربة اليمنية المبكّرة كانت تاريخية بكل المقاييس، فبحسب صحيفة "ذا إيريش تايمز" الإيرلندية، يعد إغلاق ميناء "إيلات" نتيجة الحصار اليمني "انتصارًا لليمنيين وهزيمة لإسرائيل"، مشيرة إلى أنها المرة الأولى التي يُغلق فيها الميناء منذ تأسيسه عام 1952.

الاعتراف الأكثر صراحة جاء على لسان الرئيس التنفيذي للميناء نفسه، جدعون غولبر، الذي قال في مقابلة مع صحيفة "تايمز أوف إسرائيل" إن إغلاق الميناء الاستراتيجي يمثل "نجاحًا دوليًا هائلًا لليمنيين"، مضيفًا أن هذا "نجاح لم يحققه أي من أعداء إسرائيل من قبل"، وأقر غولبر بفشل جميع الخطوات العسكرية الأمريكية والإسرائيلية في مواجهة الحصار اليمني، وفي مطالبة تكشف حجم اليأس، جدّد مناشدة حكومة المجرم نتنياهو بالسماح بتفريغ أي سفن قادمة من الشرق الأقصى في الميناء، فقط من أجل "تشكيل صورة نصر على اليمنيين".

 

تداعيات تتجاوز أرصفة الميناء

لم تقتصر الأضرار على الميناء وحده، بل امتدت لتحدث موجات من الصدمة في عمق اقتصاد العدو الإسرائيلي الجنوبي، "معاريف" نقلت عن غابي بن هاروش، رئيس نقابة سائقي الشاحنات، قوله إن نشاط شركات النقل في الجنوب انخفض بنسبة 35%، وإن مئات السائقين باتوا عاطلين عن العمل، مع توقف عشرات الشركات تمامًا، وقدر بن هاروش الأضرار المباشرة التي لحقت بشركات النقل بنحو 150 مليون شيكل سنويًا (حوالي 45 مليون دولار)، بالإضافة إلى خسائر أخرى تقدر بـ 50 مليون شيكل سنويًا نتيجة توقف القوى العاملة.

هذه الأزمة الاقتصادية العميقة أشار إليها الكاتب إيهاب شوقي في مقال نشره موقع "العهد"، حيث بيّن أن الحصار لم يعطل فقط استيراد السلع وتصدير الفوسفات، بل أدى أيضًا إلى هروب 44% من الشركات الناشئة، وتسبب في ارتفاع تكاليف الشحن بنسبة تجاوزت 300%، مما أطلق موجة غلاء واسعة، حتى إعلام العرب المطبعين لم يجدوا بدّاً من الاعتراف بالحقيقة، حيث أكد مستشار قناة الحدث السعودية للشؤون الإسرائيلية مجدي الحلبي أن هجمات اليمنيين تؤثر فعليّاً على "إسرائيل" معنويا واقتصادياً.

 

فشل استراتيجي أمريكي غربي

في المقابل، كشفت العمليات اليمنية عن حقيقة مرة للغرب، فالهيمنة البحرية التي طالما تباهت بها الولايات المتحدة وحلفاؤها ليست قدراً لا يُطال. مجلة "الإيكونوميست" البريطانية لفتت إلى أن الهجمات اليمنية الأخيرة "كشفت -على نحوٍ أكبر- هشاشة القدرات البحرية الغربية"، وأشارت بشكل خاص إلى ما تعانيه المهمة الأوروبية "أسبيدس" من نقص في التمويل، وهو أمرٌ تكرر لا شك مع التحالفات والعمليات البحرية الأخرى التي شُكّلت للغرض ذاته.

وفي تحليل أعمق، وصف معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى العمليات اليمنية بأنها "قاتلة"، وتميزت بـ"جرأة غير مسبوقة وتخطيط متقن" استخدم مزيجًا من الأسلحة. وأقر المعهد بأن انتشار مجموعتين من حاملات الطائرات الأميركية في بحر العرب "لم يردع القوات اليمنية"، في إشارة واضحة إلى فشل سياسة الردع الأمريكية. وأمام هذا الفشل، لم يجد المعهد بدًا من التحريض على إنشاء "مهمة بحرية دائمة"، معترفًا ضمنيًا بأن الحلول الحالية غير مجدية، وأن وقف الهجمات اليمنية، كما رأى خبراء آخرون، يتطلب "اتفاقًا دبلوماسيًا شاملًا".

 

دقة وقوة العمليات اليمنية:

وسط محاولات التضليل الإعلامي، جاءت شهادة من أحد أهم المصادر المتخصصة في الملاحة البحرية، لتؤكد على دقة وانضباط العمليات اليمنية، مجلة "لويدز ليست" أكدت أن القوات اليمنية لا تستهدف سوى السفن المرتبطة بالعدو الإسرائيلي، مشيرة إلى أن تدفق حركة المرور البحرية اليومية عبر مضيق باب المندب "ظل ثابتًا وغير متأثر بالهجمات اليمنية". وقدمت المجلة أدلة واضحة، مبينة أنه في الأيام التي استُهدفت فيها سفن محددة، عبرت عشرات السفن الأخرى المضيق بأمان، موضحة أن استهداف تلك السفن جاء لسماح مالكيها لسفن أخرى من أسطولهم بالرسو في موانئ فلسطين المحتلة.

هذه الدقة الاستراتيجية هي التي سمحت لليمن، كما يرى الكاتب إيهاب شوقي، بأن يفاجئ الجميع ويفرض "معادلة ردع جديدة"، عززت موقف المفاوض الفلسطيني، وأخرجت النفوذ الأمريكي فعليًا من مناطق حيوية في البحر الأحمر وبحر العرب.

انتصار اليمنيين بتكتيكاتهم المنظمة وتنسيقهم الشامل، يعزز هدفهم الواضح في معركة إسناد غزة على نحوٍ مميّز، فاليمن، المحاصر والمعتدى عليه، يقيم فعلياً الحجة على الأنظمة والشعوب، ويؤكد أن خيار المقاومة ليس فقط خيارًا أخلاقيًا، بل هو الخيار الأكثر فعالية وجدوى، بشهادة ميناء أم الرشراش الذي تحوّل من مرفأ استراتيجي حيوي إلى مشروع "كازينو للمقامرة"، وهي شهادة تاريخية على انتصار إرادة الإسناد اليمني بحيثياته الأخلاقية الإنسانية على صلافة ووحشية العدو الصهيوني ومعه الأمريكي والغربي.