موقع أنصار الله . تقرير | 

شهدت المنطقة تحولاً دراماتيكياً في موازين القوى البحرية، حيث تمكنت القوات البحرية اليمنية من فرض واقع جديد على الملاحة المتجهة من وإلى الكيان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة، لتصبح الممرات البحرية -التي كانت تعد شرياناً حيوياً لهدف اقتصادي وعسكري- مسرحاً لعمليات نوعية قلبت الطاولة على الكيان الصهيوني. هذا التطور أضحى حديث المحافل الدولية، واعتبره المحللون إعلاناً عن مرحلة جديدة تتغير فيها قواعد اللعبة.

لقد أثبتت الضربات المتكررة للقوات البحرية والقوة الصاروخية اليمنية والطيران المسير، في البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن وصولاً إلى المحيط الهندي، أن الملاحة الإسرائيلية، وتلك المرتبطة بالكيان، لم تعد بمنأى عن الاستهداف. هذا الواقع دفع بالعديد من شركات الشحن العالمية إلى تحويل مساراتها، متجنبة بذلك مخاطر العبور في مياه لطالما كانت تعتبر آمنة. ميناء "إيلات"، الذي كان يمثل نافذة حيوية للكيان على البحر الأحمر والشرق الأقصى، يواجه اليوم أزمة اقتصادية حادة، بعد أن تراجعت حركته، أدى ذلك إلى إغلاقه بشكل كامل.

في خضم هذه التطورات، باتت معادلة العربدة، التي طالما اعتمد عليها الكيان الإسرائيلي في فرض هيمنته الإقليمية، آخذت في تآكل متسارع. فالتصعيد اليمني لا يهدد فقط الملاحة الإسرائيلية، بل يرسل رسائل واضحة بأن قواعد الاشتباك قد تغيرت، وأن الثمن العسكري والاقتصادي لأي مغامرات صهيونية أصبح باهظا. ناهيك عن أن هذه التطورات المتسارعة تضع المنطقة على مفترق طرق، حيث لم تعد القوى الاستكبارية  قادرة على تجاهل الدور المتنامي لليمن في صياغة المشهد الأمني البحري، وهو ما يعيد تعريف مفهوم القوة والنفوذ في هذه الزاوية الحيوية من العالم.

 

البحر الأحمر ساحة استراتيجية لظهور واقع ردع جديد

يُعد البحر الأحمر شرياناً حيوياً للتجارة العالمية، يربط البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الهندي. هذه المنطقة شهدت تحولاً جذرياً في المشهد الجيوسياسي منذ نوفمبر 2023، مع تصاعد عمليات القوات المسلحة اليمنية ضد الملاحة التجارية المتجهة إلى الكيان الصهيوني.

بدأت القوات المسلحة اليمنية استهداف السفن المرتبطة بالعدو الإسرائيلي في البحر الأحمر في نوفمبر 2023. للتعبير عن التضامن مع الشعب الفلسطيني رداً على العدوات الصهيوني على غزة.

لقد بات الشلل الفعلي الذي أصاب ميناء "إيلات" الإسرائيلي -وهو منفذ استراتيجي حيوي على البحر الأحمر- أبرز شاهد على نجاح هذه المعادلة. فوفقاً لتقارير إعلامية عبرية، يمثل هذا الشلل انتصاراً استراتيجياً للقوات المسلحة اليمنية، وضربة اقتصادية ونفسية عميقة للكيان الصهيوني. لم تقتصر التداعيات على ميناء واحد، بل امتدت لتشمل ارتفاع تكاليف الشحن، وتمديد أوقات العبور، فضلاً عن ضغوط تضخمية ملموسة. هذه التداعيات -كما يحلل خبراء اقتصاديون غربيون- عززت من نفوذ اليمن، وأوجدت ضغوطاً دولية غير مباشرة تدعم أهدافه الردعية.

 

معادلة الردع استجابةٌ تكتيكيةٌ لنصرة غزة

يمثل التعطيل الناجح للتجارة البحرية للكيان الصهيوني والشلل الفعلي لميناء "إيلات" الاستراتيجي، وحتى تعطيل حركة الملاحة الجوية في مطار اللد، أمثلة رئيسية على هذه المعادلة، ما يبرهن على قدرة القوات المسلحة اليمنية على إبراز قوتها وفرض تكاليف تتجاوز حدودها المباشرة. ويشير محللون في مراكز الأبحاث الأمريكية إلى أن "معادلة الردع" التي يفرضها اليمنيون هي استجابة تكتيكية لنصرة غزة، تتوقف بتحقيق أهدافها في وقف العدوان الصهيوني. وهي في الوقت ذاته مناورة استراتيجية ضمن طموحات إقليمية أوسع وأطول أمداً.

هذا يعني -وفقاً لتقديرات البنتاغون- أنه حتى لو تراجعت حدة الصراع في غزة، فإن التهديد اليمني للملاحة المتجهة إلى الكيان الصهيوني قد يستمر باستمرار جرائم الإبادة والاحتلال، فضلاً عن أنه يخدم أهدافاً أيديولوجية أساسية، متمثلة في التحدي الإقليمي والنفوذ الغربي المتزايد في نهب ثروات الأمة، وتضعيف قراراتها وسيادتها على أراضيها ومقدراتها. وبالتالي، فإن "الردع" الذي يسعى إليه اليمنيون يتعلق بتغيير أساسي في ميزان القوى الإقليمي، وإنهاء الوجود الصهيوني والهيمنة الدولية في المنطقة.

تُبرز هذه الديناميكية تحولاً حاسماً في الصراعات الحديثة، كما يرى خبراء عسكريون غربيون: التفوق العسكري التقليدي لا يترجم تلقائياً إلى ردع فعال ضد الجهات الفاعلة غير الحكومية الرشيقة والمدفوعة أيديولوجياً، والتي تعمل في بيئات جيوسياسية معقدة. يفرض اليمنيون الاضطراب الاقتصادي في الداخل الصهيوني كأداة ردع أساسية، ما يجبر الكيان الصهيوني على تكبد تكاليف باهظة، تمهيداً للمواجهة العسكرية الكبرى على طريق تحرير الأراضي المحتلة وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية. هذا يتحدى المفاهيم التقليدية للردع، التي غالباً ما تركز على القدرات العسكرية المتبادلة، ويؤكد فعالية الحرب الاقتصادية في السياقات غير المتكافئة. "معادلة الردع" هنا، بحسب تحليل صادر عن مؤسسة "راند" الأمريكية، "أقل من التدمير المتبادل المؤكد، وأكثر من الخنق الاقتصادي والإحراج الاستراتيجي".

 

الركيزة الاقتصادية في حصار ميناء "إيلات"

التأثير الاقتصادي المباشر لعمليات القوات المسلحة اليمنية على الكيان الصهيوني يتجلى بشكل واضح في ميناء "إيلات"، الذي أصبح رمزاً ملموساً لـ "معادلة الردع" المفروضة. على المستوى التشغيلي والمالي، أغلق ميناء "إيلات" (البوابة الجنوبية للكيان الصهيوني على الأراضي المحتلة) بشكل نهائي في 20 يوليو 2025م، بسبب الانهيار المالي الناجم مباشرة عن العمليات العسكرية اليمنية في البحر الأحمر.

شهد الميناء انخفاضاً مذهلاً تجاوز 90% في أنشطته منذ بدء عمليات القوات المسلحة اليمنية على السفن في نوفمبر 2023، وفقاً لبيانات نشرتها صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية. أدى هذا الانخفاض الكبير في أحجام الشحن، بالإضافة إلى التكاليف التشغيلية المستمرة (مثل الضرائب البلدية وتكاليف الرواتب)، إلى تراكم ديون تتجاوز 20 مليون دولار، ما جعل استمرار العمليات غير مستدام مالياً بحلول منتصف عام 2025. هذه الضائقة المالية تعرض 170 وظيفة للخطر بشكل مباشر. وقد أعلن الميناء إفلاسه في يوليو وطلب دعماً "حكومياً رسمياً". وعلى الرغم من ذلك، لم يتم استلام حتى الحد الأدنى من المساعدة "الحكومية" الموعودة بقيمة 15 مليون "شيكل" (4.5 مليون دولار). وأُعلن عن إغلاق كلي للميناء في 20 يوليو 2025.

أما التأثير على التجارة الصهيونية وسلاسل التوريد والقطاعات الرئيسية، فيُعد إيلات نقطة دخول حاسمة لواردات معينة من شرق آسيا، حيث يستقبل حوالي 50% من واردات الكيان من المركبات من الصين، كما ذكرت صحيفة "غلوبس" الاقتصادية العبرية. يؤثر إغلاقه بشكل مباشر على سلاسل التوريد هذه.

كما يُعد الميناء بوابة حيوية للصادرات إلى "الشرق الأقصى"، لاسيما للفوسفات والبوتاس من شركة الكيماويات الصهيونية المحدودة (ICL). يؤثر هذا التعطيل على الصناعات الاسرائيلية الرئيسية. وتشمل التداعيات الاقتصادية الأوسع للكيان ارتفاع تكاليف الاستيراد وتحديات كبيرة للمصدرين، خاصة للسلع سريعة التلف التي لا تتحمل أوقات عبور طويلة. تُجبر السفن المتجهة إلى الكيان الصهيوني من الشرق الأقصى الآن على تغيير مسارها حول الطرف الجنوبي لأفريقيا (رأس الرجاء الصالح)، ما يضيف أسبوعين إلى أربعة أسابيع إلى أوقات الشحن، ويزيد التكاليف بشكل كبير لكل سفينة.

وبالنسبة للأهمية الاستراتيجية لإغلاق "إيلات" كنجاح يمني، فقد صرح الرئيس التنفيذي لميناء "إيلات"، جدعون جولبر، صراحة بأن إغلاق الميناء سيشكل "نجاحاً دولياً هائلاً للقوات المسلحة اليمنية لم يحققه أي من أعدائنا من قبل"، وذلك في تصريحات نقلتها وسائل إعلام عبرية. هذا يؤكد القيمة الرمزية والاستراتيجية لهذا الاضطراب الاقتصادي.

 على العكس من ذلك، أشار جولبر إلى أن استئناف تفريغ السفن من الشرق الأقصى في ميناء "إيلات" سيمثل "صورة انتصار شكلي على اليمنيين"، ما يسلط الضوء على تصور "الحصار البحري" اليمني الناجح على الكيان الصهيوني. وقد اقترحت إدارة الميناء خطة لدعم "حكومي" (حوالي 1.5 مليون دولار شهرياً لـ 3-4 سفن) للحفاظ على وظيفته، واصفة إياها بأنها إجراء ضروري "لرفع الحصار البحري عن الكيان"، وضمان عودة واستمرارية "ميناء استراتيجي". هذا الاقتراح المطالب بالدعم "الحكومي" يؤكد بشكل أكبر نجاح القوات المسلحة اليمنية في فرض عبء اقتصادي واستراتيجي كبير على الميزان الاقتصادي للكيان.

الاقتصاد نقطة ضعف العدو

يكشف هذا عن أن "معادلة الردع" اليمنية لا تعتمد فقط على القوة العسكرية المباشرة، وإنما على فهم متطور لنقاط الضعف الاقتصادية للكيان، كما يرى محللون في واشنطن. فمن خلال جعل طريق البحر الأحمر غير آمن أمام ملاحة السفن الاسرائيلية، فقد قلل ذلك بشكل كبير من حركة الشحن، ما أدى بعد ذلك إلى الانهيار المالي للميناء. هذا شكل قوي من أشكال الحرب الاقتصادية يستغل الجدوى المالية للبنية التحتية الرئيسية، ما يوضح قدرة القوات المسلحة اليمنية على الاستفادة من الضغط غير المباشر لتحقيق تأثير استراتيجي. إنه أشبه بـ"الموت بآلاف الجروح" بدلاً من ضربة حاسمة واحدة، ما يعني أنه حتى لو تم تخفيف التهديدات العسكرية المباشرة، فقد يستمر الضرر الاقتصادي بسبب التحولات طويلة الأجل في أنماط الشحن، والديون المتراكمة للميناء.

 إن ضعف "إيلات"، على الرغم من حجم تجارتها الإجمالي الأصغر مقارنة بموانئ حيفا وأشدود، يجعلها نقطة اختناق استراتيجية حرجة. لقد حددت القوات المسلحة اليمنية هذه النقطة الضعيفة واستغلتها بنجاح، ما يدل على فهم دقيق للجغرافيا الاقتصادية للكيان. وبالتالي، فإن "معادلة الردع" تهدف بشكل كبير إلى إلحاق أقصى قدر من الألم العسكري والاقتصادي. هذا الاستهداف الناجح لأصل استراتيجي يعزز مكانة القوات المسلحة اليمنية الإقليمية، وقدرتها على تحدي خصم أقوى، ما يثبت قدرتهم على فرض تكاليف كبيرة.

 

تداعيات اقتصادية أوسع

يمتد تأثير "معادلة الردع" اليمنية إلى ما هو أبعد من التأثير الاقتصادي المباشر على الملاحة المتجهة إلى الكيان الصهيوني، ليشمل تداعيات اقتصادية عالمية وإقليمية واسعة النطاق، لاسيما على شركات الملاحة المتعاملة مع الكيان. كما أشارت تقارير صادرة عن البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، فإعادة توجيه الشحن العالمي عبر رأس الرجاء الصالح أدت إلى تغيير جذري في التجارة البحرية العالمية، ما أجبر شركات الشحن على إعادة توجيه السفن بعيداً عن البحر الأحمر.

 تُظهر البيانات من الشهرين الأولين من عام 2024 ، أن إعادة التوجيه تضيف حوالي 3,500 ميل بحري إلى الرحلات بين آسيا وأوروبا. زادت أوقات العبور بمتوسط 10-14 يوماً، مع زيادة بعض الطرق، مثل الصين إلى هولندا، من 30 إلى 38 يوماً. بالنسبة للسفن المتجهة إلى الكيان الصهيوني، تتراوح الزيادة بين أسبوعين وثلاثة أسابيع، أو أربعة أسابيع أطول بشكل عام، كما ذكرت شركات شحن عالمية مثل "ميرسك". ارتفعت تكاليف الشحن بنسبة 15-20% بسبب استهلاك الوقود الإضافي، مع ارتفاع أسعار الشحن الفورية للحاويات بين آسيا وأوروبا بأكثر من 40%، وفقاً لمؤشرات بلومبرغ. وارتفعت أقساط التأمين ضد مخاطر الحرب لعبور البحر الأحمر بشكل كبير بنسبة 300-500%. وقد واجهت بعض السفن المتجهة إلى الكيان الصهيوني زيادة بنسبة 250% في تكاليف التأمين، بينما لم تتمكن أخريات من الحصول على أي تغطية تأمينية، حسب تقارير لشركات تأمين بحرية غربية.

 

مرونة القوات المسلحة اليمنية

في محاولة يائسة منها لكسر معادلة "الردع اليمني"، أطلقت الولايات المتحدة وحلفاؤها عمليات عسكرية شملت ضربات جوية واسعة النطاق في الجغرافيا اليمنية، استهدفت الأعيان المدنية والمنشآت الخدمية والمدن التاريخية وحتى المقابر ومحطات الكهرباء والموانئ التجارية. وعلى الرغم من تعرض اليمن لـ(2843) غارة وقصف بحري نفذتها الولايات المتحدة وبريطانيا وكذلك الكيان الصهيوني، إلا أنها فشلت.

 في المقابل، أُظهرت القوات المسلحة اليمنية مرونة لافتة في مواجهة الضربات العسكرية، جعلت الأمريكيين وحلفاءهم يدركون جيداً أن أي نهج عسكري مع اليمن غير مُجدٍ، ما اضطرها إلى رفع الراية البيضاء وإعلان وقف إطلاق النار بوساطة عمانية.

في الحسابات الاستراتيجية للكيان الصهيوني، تمثل "معادلة الردع" التي فرضتها القوات المسلحة اليمنية تحولاً جوهرياً، كاشفةً عن نقاط ضعف جديدة. فالإغلاق الفعلي لميناء "إيلات" يُعد حصاراً بحرياً ناجحاً لم يسبق لأي من أعداء الكيان الصهيوني أن حققه، كونه يتحدى حصانتها المتصورة وقدرتها على حماية شرايينها التجارية الحيوية. وفقاً لتقييمات عسكرية عبرية، هذا لا يفرض تكاليف اقتصادية مباشرة فحسب، بل يمثل عبئاً نفسياً واستراتيجياً كبيراً، قد يؤثر على ثقة المستثمرين، والتخطيط الاقتصادي طويل الأجل، كما حذر خبراء اقتصاديون صهاينة.

 

 معادلة الردع المستمرة

لقد نجحت القوات المسلحة اليمنية في ترسيخ "معادلة ردع" ملموسة ضد الكيان الصهيوني، تجلت في فرض تكاليف اقتصادية كبيرة، وتهديد موثوق به للملاحة البحرية الحيوية. إن شلل ميناء "إيلات"، والتداعيات الاقتصادية العالمية المتتالية من ارتفاع تكاليف الشحن والضغوط التضخمية، كلها تعزز من نفوذ القوات المسلحة اليمنية، وتخلق ضغوطاً دولية غير مباشرة تدعم أهداف اليمن الردعية، بشهادات محللين في مراكز الأبحاث الغربية.

 وكما يرى محللون استراتيجيون غربيون وعبريون، فقد خلقت "معادلة الردع" اليمنية بالفعل واقعاً بحرياً جديداً، قد يكون دائماً. حتى لو تضاءل التهديد الأمني الفوري، فإن الجمود الاقتصادي واللوجستي للشحن المعاد توجيهه، بالإضافة إلى زيادة أقساط التأمين وتصور المخاطر المستمر، قد يمنع العودة الكاملة إلى الأنماط التي كانت سائدة قبل الحرب. هذا يعني أن القوات المسلحة اليمنية قد حققت تأثيراً استراتيجياً طويل الأمد على الملاحة والتجارة المتجهة إلى الكيان الصهيوني. ومن شأن ترسيخ هذه الحقائق الجديدة أن يمثل نجاحاً عميقاً ودائماً لـ"معادلة الردع" اليمنية، ما يشكل المشهد الجيوسياسي والاقتصادي لسنوات قادمة.