على مرأى ومسمع من مجتمع دولي يلتزم التنديد والاستنكار والمناشدة بدم بارد، ويرافقه خذلان عربي إسلامي مخزٍ، تتكشف في غزة فصول مأساة إنسانية غير مسبوقة، حيث ينسج العدو الإسرائيلي سياسة تجويع ممنهجة، يحول الغذاء فيها إلى سلاح إبادة.
بعد نحو 660 يوماً من القصف والتجويع المتواصل، وجد سكان القطاع أنفسهم محاصرين بين "مصائد الموت"، حيث الجوع يفتك بهم من الخلف، وآلة القتل الإسرائيلية تحصد أرواحهم من الأمام. لقد تحولت المساعدات الإنسانية إلى فخاخ موت، ففي مشاهد مروعة، أطلق جنود العدو الرصاص على الجموع الجائعة التي سعت للحصول على لقمة تسد رمقها، ما أسفر عن ارتقاء أكثر من ألف شهيد وستة آلاف جريح، في تأكيد لسياسة ممنهجة لا تفرق بين الجوعى والمحاربين.
في شوارع غزة، التي باتت الحياة اليومية فيها شكلاً من أشكال المقاومة، يقف الناس في طوابير طويلة للحصول على وجبة عدس أو قطعة خبز، بينما تتساقط القذائف والرصاص من حولهم. وزارة الصحة في قطاع غزة، وفي بيان مقتضب صادر الأربعاء 30 يوليو 2025، أعلنت عن 7 حالات وفاة جديدة خلال الـ24 ساعة الماضية نتيجة المجاعة وسوء التغذية، من بينهم طفل أنهكه الجوع. ليرتفع العدد الإجمالي لوفيات المجاعة وسوء التغذية إلى 154 حالة وفاة، من بينهم 89 طفلاً، وهي أرقام تعكس فداحة الكارثة.
يؤكد المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) أن "أسوأ سيناريو للمجاعة يحدث الآن بالفعل في غزة"، مشدداً على أن غزة "وصلت إلى حافة المجاعة مع انتشار التجويع وسوء التغذية على نطاق واسع في جميع أنحاء القطاع الذي مزقته الحرب، بما في ذلك بين الأطفال". كما أشارت الأونروا إلى وفاة أكثر من 100 شخص بسبب الجوع في الأسابيع القليلة الماضية فقط، مؤكدة أن السبيل الوحيد لوقف هذه الكارثة هو "إغراق غزة بكميات هائلة من المساعدات"، وأن الأمم المتحدة، بما فيها الأونروا، تمتلك الخبرة والموارد اللازمة، مشددة على أن "لدى الأونروا وحدها ما يعادل 6000 شاحنة من الغذاء والدواء جاهزة للدخول إلى غزة".
منظمة العمل ضد الجوع، من جهتها، أكدت أن "المجاعة في قطاع غزة تزداد حدة، ونحو 20,000 طفل نقلوا للمستشفيات بسبب سوء التغذية الحاد"، مشيرة إلى أن 300,000 طفل دون الخامسة و150,000 امرأة حامل ومرضع بحاجة ماسة إلى مكملات علاجية. وفي سياق متصل، أشار برنامج الأغذية العالمي إلى أن "الأرقام تؤكد أن غزة تواجه خطراً بسبب المجاعة، والوقت ينفد لإطلاق استجابة إنسانية شاملة"، موضحاً أن "1 من كل 3 أشخاص بغزة يقضي أياماً دون طعام، و75% يواجهون مستويات طارئة من الجوع"، مضيفاً أن حوالي 25% من سكان قطاع غزة يعانون ظروفاً شبيهة بالمجاعة.
يتعمد العدو الإسرائيلي هندسة الفوضى والتجويع في قطاع غزة. ففي الوقت الذي دخلت فيه فقط 109 شاحنات مساعدات إلى القطاع اليوم، أعلن المكتب الإعلامي الحكومي بغزة أن غالبيتها تعرضت لعمليات نهب وسرقة نتيجة الفوضى الأمنية التي يكرسها العدو بشكل ممنهج ومتعمد، بهدف إفشال توزيع المساعدات وحرمان المدنيين منها. كما كشف المكتب عن 6 عمليات إنزال جوي جرت الأربعاء، سقطت 4 منها في مناطق خاضعة لسيطرة العدو أو في أحياء سبق أن أمر المواطنين بإخلائها، ما يجعل هذه الإنزالات عديمة الجدوى وخطرة على حياة المواطنين المجوعين.
وأكد المكتب الحكومي أن قطاع غزة يحتاج يومياً إلى 600 شاحنة مساعدات ووقود، وهو الحد الأدنى من الاحتياجات الفعلية لأهم القطاعات الحيوية، مديناً بأشد العبارات استمرار جريمة الفوضى والتجويع وحرمان 2.4 مليون إنسان، بينهم 1.1 مليون طفل، من حليب الأطفال والمساعدات.
في موازاة ذلك، تواجه مليون امرأة وفتاة في قطاع غزة خطر المجاعة والعنف والإساءة على نطاق جماعي، حيث يواجهن خيارات مستحيلة بين الموت جوعاً أو التعرض لخطر القتل أثناء بحثهن عن الطعام، وفق تحذيرات الأمم المتحدة، التي تؤكد أن انتشار الجوع وسوء التغذية والأمراض يسهم في ارتفاع الوفيات المرتبطة بالجوع.
تتجلى أبشع صور المأساة في مستشفيات القطاع، التي وصلت إلى أسوأ حالاتها. يؤكد الدكتور محمد أبو سلمية، مدير مجمع الشفاء الطبي بغزة، أن السعة السريرية في المجمع فاقت 250%، وأن الوفيات بسبب التجويع الممنهج وسوء التغذية في القطاع أصبحت بأعداد غير مسبوقة. وكشف أبو سلمية أن نحو 154 شهيداً، بينهم 89 طفلاً، ارتقوا بسبب الجوع وسوء التغذية الناتجة عن الحصار ومنع دخول الغذاء والدواء، مشدداً على أن أعداد الوفيات تزداد كل ساعة مع اشتداد المجاعة وقلة الغذاء.
الفئة الأكثر تضرراً هي الأطفال، إذ دخل أكثر من 17 ألف طفل مرحلة سوء التغذية التام، وليس لدى وزارة الصحة ما يبقي الأطفال الخدج أحياء، لعدم توفر الحليب والمواد الغذائية، خصوصاً أن مستشفيات الأطفال تعج بآلاف المرضى جراء مستوى الجوع الذي لم يسجل من قبل. ويشير أبو سلمية إلى أن الأطفال لا يمكنهم الصمود طويلاً في وجه المجاعة، ولا يحتملون الصيام لفترات طويلة ما يعرضهم لخطر شديد، وهم الفئة الأكثر هشاشة ومعرضون للإصابة بالأمراض.
يقدم الدكتور مارك براونر، طبيب الطوارئ الأمريكي -الذي تطوع مؤخراً في قطاع غزة- شهادة مؤلمة عن الواقع هناك، ووفقاً لما نشر موقع "هاف بوست"، فقد أشار الطبيب إلى أن الأطفال الفلسطينيين تجاوزوا بالفعل "نقطة اللاعودة"، محذراً من أن شهري أغسطس وسبتمبر قد يشهدان أعداداً ضخمة من الوفيات نتيجة التجويع.
براونر -الذي عمل بمستشفى ناصر الطبي في خانيونس- وصف الظروف على الأرض بالمروعة، وقال: "الانفجارات كانت تقع كل عشر دقائق تقريباً قرب المستشفى. رأيت أجساداً هزيلة لأطفال لم يعد بإمكانهم امتصاص الغذاء أو الماء بسبب تدهور بطانة الأمعاء، ما يجعل إعادة التغذية نفسها تهديداً لحياتهم". وأضاف: "هؤلاء الأطفال يموتون أمامنا، والموت الجماعي بات حتمياً".
وأشار إلى أن معدلات سوء التغذية الحاد لدى أطفال غزة تجاوزت 15%، فيما يعاني ما لا يقل عن 10% من الأطفال من سوء تغذية حاد خطير. وقال: "الأطفال الذين ينجون، سيواجهون على الأرجح إعاقات عصبية دائمة، نتيجة نقص فيتامينات أساسية كالثيامين، ما يؤثر على قدراتهم المعرفية مدى الحياة". وتحدّث عن حالات لرضع وأطفال تُوفُّوا بسبب أمراض مرتبطة بالجوع، مثل "التهاب الأمعاء السام" الناتج عن تحلل الأمعاء ذاتياً بسبب نقص الغذاء.
أما بالنسبة للبالغين، فأوضح براونر أنهم في حالة "هزال شديد"، حيث أجريت عمليات جراحية لمرضى ظهرت أضلاعهم بشكل واضح، و"لم تكن هناك صعوبة في إدخال أنابيب الصدر بين الأضلاع لأن الجسم كان شبه عظمي".
وأضاف: "حتى لو لم تكن مصاباً، فإن البيئة نفسها كفيلة بتدميرك. الجروح البسيطة لا تلتئم بسبب نقص البروتين والماء، وتؤدي إلى التهابات متكررة لا تجد من يعالجها". وروى مشاهداته لأطباء وممرضين كانوا يفقدون وعيهم أثناء العمل أو خلال العمليات الجراحية، بسبب سوء التغذية وعدم توفر وجبات غذائية منتظمة لهم.
وأكد على الضغط الهائل على الطواقم الطبية في غزة، الذين يعملون ساعات طويلة وسط نقص الأدوية والإمدادات، مع تعرضهم المستمر للتهديدات الجوية وعمليات القصف. يقول: إنهم يعيشون حالة انهيار نفسي وجسدي متزامن، حيث تفقد الكوادر الطبية القدرة على الاستمرار بسبب الإرهاق والصدمة.
وقال إن الطواقم الطبية في غزة كانت تعمل يومياً ما بين 16 و18 ساعة، ثم تعود مشياً إلى خيامها قبل الفجر، لتعود مجدداً في اليوم التالي. وأكد: "لم أرَ مسلحين أو شعارات حاقدة، بل رأيت شباباً مرهقين، في جيوبهم فراغ، وفي أقدامهم نعال ممزقة".
ويروي الطبيب مشاهد مأساوية حيث يعاني المرضى من حالات متقدمة من سوء التغذية، بحيث تبدأ أمعاؤهم تهضم نفسها نتيجة نقص الغذاء الحاد، ما يؤدي إلى فشل أعضاء حاد، ومضاعفات لا علاج لها. يصف أحد الأطباء هذه الحالة على أنها "جوع من نوع مختلف، حيث يصبح الجسم عدو نفسه".
ويشير كذلك إلى تجاهل الإدارة الأمريكية بقيادة بايدن، وتاريخ سياسات ترامب في دعم الاحتلال الإسرائيلي بلا حساب، ما أدى إلى تفاقم الكارثة في غزة؛ فـ"الصمت الأمريكي يعتبره الأطباء والمراقبون تواطؤاً واضحاً يسمح للاحتلال بممارسة الإبادة دون محاسبة".
ويؤكد وجود حالات إطلاق النار على الأطفال الفلسطينيين حتى في أماكن تجمعهم عند نقاط توزيع المساعدات، حيث لا يجد الأطفال ملاذاً آمناً، ويقع القتل بشكل مباشر أمام أعين الجميع. تُروى شهادات عن استهداف متعمد للأطفال وهم ينتظرون المساعدات الغذائية والطبية.
وفي ممارسات تؤكد أن التجويع ليس سوى وجه آخر لآلة قتل شاملة لا ترحم، تبلور مشهد هو الأكثر فظاعة باستمرار العدو الإسرائيلي في تنفيذ عمليات قصف عنيفة واستهداف مباشر للمدنيين، بمن فيهم من ينتظرون المساعدات الإنسانية في ظل التجويع الشامل للأهالي. ففي محيط منطقة نتساريم وسط القطاع، ارتقى شهيدان برصاص العدو، فيما وصلت إصابات عديدة إلى مستشفى العودة، إثر استهداف جديد للمدنيين المحتشدين في انتظار شاحنة مساعدات. وفي مفترق النابلسي جنوب غربي مدينة غزة، أفاد مستشفى القدس باستقباله ثمانية جرحى من المدنيين أصيبوا برصاص الاحتلال أثناء انتظارهم المساعدات.
ولم يتوقف القصف الإسرائيلي الليلة الماضية، حيث استُهدفت مناطق النصيرات، الشجاعية، دير البلح، جباليا، خانيونس، وأحياء عدة بمدينة غزة. وتركّزت الغارات على المناطق المأهولة، مع تسجيل استهداف مباشر لمئذنة مسجد أبو سليم مرتين بواسطة طائرة مسيرة انتحارية في دير البلح. واستهدفت المدفعية الإسرائيلية شارع صلاح الدين، أرض المفتي، ومحيط شركة الكهرباء شمالي النصيرات، فيما سُجلت غارات على سجن أصداء في المواصي، وقصف متكرر في محيط ضبيط داخل مدينة غزة.
وفي الجنوب، تكدّس الآلاف من الأهالي قرب منطقة كوسفيم شرق خانيونس على أمل الحصول على المساعدات، بينما سُجلت إصابة طفل في الرأس بمنطقة بئر 19 إثر إطلاق نار مباشر من جيش الاحتلال.
كما فجّر العدو الإسرائيلي روبوتا مفخخا شرق جباليا، وشنّت طائراته غارات جديدة صباح اليوم على دير البلح، فيما لا تزال المؤشرات تشير إلى انهيار شامل في المنظومة الإنسانية، مع تزايد أعداد الجرحى والنازحين، وانعدام الأمن الغذائي والمائي، خاصة بعد إعلان الأمم المتحدة دخول المجاعة رسمياً في غزة.
في سياق متصل، ناشد المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم غيبريسوس، بإدخال الغذاء والدواء إلى قطاع غزة لوقف الوفيات الناجمة عن المجاعة جراء الحصار الإسرائيلي. وأضاف في منشور له على منصة “إكس”، ، أن المجاعة وسوء التغذية والأمراض في غزة تسببت في زيادة الوفيات المرتبطة بالجوع. وأكد أن هذا الأمر يستدعي ضرورة إيصال مساعدات غذائية وطبية على نطاق واسع لمنع تفاقم الوضع.
غيبريسوس أشار إلى تقرير التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC)، الصادر اليوم، والذي حذّر من أن “غزة تشهد أسوأ سيناريوهات المجاعة”.ومضى قائلا: “المجاعة وسوء التغذية والأمراض تؤدي إلى ارتفاع في الوفيات المرتبطة بالجوع”.وجدد دعوته إلى وقف إطلاق النار في غزة، مردفا: “السلام هو أفضل دواء!”
ومن منبع الأرقام، التي لا تتوقف عن الارتفاع، معرية كل محاولات نفي حقيقة المجاعة التي يتجرع أهل غزة مرارتها، تجدر الإشارة إلى أنه، ومنذ بداية الحرب على غزة في أكتوبر 2023، استشهد (60,138) فلسطيني وأصيب (146,269) آخرون؛ جرّاء عدوان العدو الإسرائيلي. كما سجلت إحصائيات وزارة الصحة بغزة (8,970) شهيداً و(34,228) جريحاً منذ خرق العدو لاتفاق وقف إطلاق النار في منتصف مارس 2025.
في السياق، أكدت وزارة الصحة بغزة أن "كل المحاولات البائسة لنفي حقيقة المجاعة تعريها أعداد المتقاطرين إلى أقسام الطوارئ، وأعداد الوفيات التي طالما حذرنا من حدوثها". وفي استنكار منها لحالة التهاون بما يتجرعه أهل غزة من جرائم إبادة وتجويع غير مسبوقة في تاريخ الحروب التي شهدتها البشرية عبر التاريخ، أكدت لجنة الطوارئ المركزية في غزة أن "البيانات الرسمية الصادرة عن بعض الجهات المصرية لا تعكس الواقع إطلاقاً، بل تضلل الرأي العام وتُجمّل صورة تقصير فادح بحق أكثر من مليوني إنسان يعيشون الكارثة في قطاع غزة".
وأشارت إلى أن "ما يُعلن عن دخول مئات الشاحنات عبر معبر رفح غير صحيح، والأرقام المعلنة لا وجود لها على الأرض. ما يصل فعلياً لا يلبّي الحد الأدنى من احتياجات الناس". مشيرة إلى أن "الإخلاء الطبي الذي يتم تضخيمه في التصريحات لا يغطي إلا نسبة ضئيلة جداً من الجرحى، ويتم بآليات معقّدة ومذلّة، بينما يترك عشرات الآلاف من المرضى والجرحى لمصيرهم".
وعبرت اللجنة عن رفضها استخدام معاناة أبناء غزة "غطاءً لبياناتٍ تُجافي الحقيقة"، مطالبة السلطات المصرية بفتح فوري وغير مشروط لمعبر رفح، وإلغاء آليات التنسيق المذلّة التي تعيق دخول الغذاء والدواء والوقود، وكشف الأرقام الحقيقية لما يدخل ويخرج من غزة، وتحمّل مسؤولية قومية حقيقية بدلاً من الاكتفاء بالتصريحات الإعلامية الفارغة"، مؤكدة "لقد آن الأوان أن تنتقل مصر من موقع الوسيط إلى موقع الموقف الأخلاقي إلى جانب غزة المنكوبة".