موقع أنصار الله . تقرير | يحيى الشامي
ما عادت "دولتُهم الكبرى" المزعومة محض تخرّصات عقائدية وتحريفات تلمودية وحسب، هي ذي اليوم تتجلى على أرض فلسطين، وتتوحش في غزة والضفة، وتتهدد القدس والخليل، وتتمدد في سوريا ولبنان، وتنذر دول مصر والشام والحجاز بالضم، في إفصاحٍ كاشفٍ عن جوهر المعتقد اليهودي الذي توارثته الكيانات الصهيونية عبر العصور.
والأخطر هنا أنّ العدو لا يجدُ اليوم ما يدعوه لإخفاءِ نوايا تمدّده إلى أكثر مما هو عليه اليوم، حين يسكت العرب عن تحرير فلسطين يعمل العدو الإسرائيلي على احتلال سواها. هذه هي القاعدة التي يتوسع بموجبها الكيان، ويتمدد مشروعه. اليوم نتنياهو يُعلنها بوقاحةٍ تُلامس الجنون، ففي لقاءٍ تلفزيوني مع قناة "آي 24" الإسرائيلية، وصَف ما يُمسى رئيس الوزراء مهمتَه بـ"الروحانية والتاريخية"، متقمصاً دور المنقذين والمصلحين المخلّصين، ومتدثّراً رداء الأنبياء والرسل، مُعلناً أن مشروعَ "إسرائيل الكبرى" ليس حُلماً، بل "رسالة أجيال" تَسْعَى لرسم خريطةٍ تشملُ من النيل إلى الفرات، وتَمتدّ من سيناء إلى مكةَ والمدينة. تصريحٌ لا يُجسّد رؤيةً فرديةً لزعيمٍ متطرف، كما يصفهم الإعلام العبري بغباء، فقد كشف هذا التصريح وما سبقه أن الكيان اليهودي كيان مؤدلج، يوظف المعتقد في خدمة الأطماع، ويخطئ كل من يظن أن فيه يساراً ويمينا، ومتطرفاً ومعتدلا، الكل على قلب صهيوني واحد، وما أخفاه نتنياهو بالأمس أعلنه اليوم، وما أظهره سموتريتش بالأمس ووافقه نتنياهو اليوم هو ما يؤمن به كل الصهاينة المحتلين لفلسطين، وهو جوهر المشروع، كسرطان يمتد في الجسم العربي العليل، يُوثّقُ استمرارَ مشروعٍ استعماريٍّ توارثته الحركة الصهيونية عبر قرون، مُستخدماً التوراةَ سِلاحيْن: تَحْريفاً للحقائق التاريخية، وغطاءً لِشرعنةِ الاحتلال.
يرجع المخطط التوسعي للكيان الصهيوني إلى عام 1904، حين أعلن ثيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية أن "أرض إسرائيل" تبدأ من النيل وتنتهي عند الفرات. الفكرة بُنيت على تفسيراتٍ تلموديةٍ مُحرّفةٍ، تُختزل فيها الجغرافيا التاريخية للمنطقة بـ"وعد إلهي" خرافي، ومع وصول حزب "الليكود" إلى السلطة عام 1977، حوّل المشروعَ إلى برنامجٍ سياسيٍّ عبر استبدال مصطلح "يهودا والسامرة" بدلا عن "الضفة الغربية"، متحديا كل المبادرات العربية والجهود التفاوضية، محوّلاً الاستيطان إلى أداةٍ لفرض الأمر الواقع وتمزيق فلسطين وتفتيت الحق الفلسطيني خطوة بخطوة.
اليوم، يُعيد نتنياهو إحياءَ هذا السيناريو، بدعمٍ من أصوات الصهيونية الدينية المرتفعة والشريكة في الحكم مثل بتسالئيل سموتريتش، الذي أعلن عام 2016 أن "حدود إسرائيل يجب أن تشمل دمشق وست دول عربية"، ثم عاد في 2023 ليُظهر خريطةً تضم الأردن كاملاً خلال خطابٍ في باريس. الأمر لا يقتصر على الخطاب: ففي يونيو 2024، ظهر جنديٌّ من جيش العدو الإسرائيلي في غزة يرتدي خريطةَ "إسرائيل الكبرى" على ذراعه، في تأكيدٍ متعمد من قلب الميدان أن التوسعَ ليس نظرياً، بل يُطبّقُ على الأرض بدمٍ بارد، وليس في غزة أو الضفة فقط، بل يشمل كل الأرض المحيطة، من الشام إلى الحجاز، ومن العراق شرقاً إلى مصر غرباً.
لا يقف المشروع عند حدود فلسطين التاريخية، بل يمتدّ إلى سوريا ولبنان وسيناء، مُستغلاً الفراغَ السياسي وانشغالَ الأنظمة العربية، ففي ظل العدوان على غزة -الذي قارب العامين من الإبادة الجماعية- يواصل "جيش" العدو الإسرائيلي تمدده في الجنوب السوري، مسيطراً على المزيد من الأراضي السورية، ومحكماً قبضته على كامل الأرض، مع شنّهِ غاراتٍ متكررةً على الأراضي السورية، ويصعّد عدوانَه على لبنان تحت ذريعة "مكافحة حزب الله"، وتتحدّث تقارير عبرية وغربية أن نتنياهو يُعِدّ لمرحلة "ما بعد المقاومة"، بهدف التوسع شرقاً.
في سياق الأطماع التوسعية وتمدد المشروع الصهيوني تعتبر مصر المهدَّد الأول: خبراء سياسيون حذروا من أن "قطاع غزة يُشكّل خط الدفاع الأول للأمن القومي المصري"، وأن فشل العدو في حسم المعركة قد يدفعه لاستهداف سيناء، وهذا ليس تكهّناً، بل يتوافق مع تصريحاتٍ لمسؤولين إسرائيليين مثل آفي ليبكين الذي أعلن في 2024 أن "إسرائيل ستملك مكة والمدينة وجبل سيناء، وستطهّر تلك الأماكن".
لا يمكن فصل المشروع التوسعي عن الدعم الغربي غير المحدود، الذي يحوّل التخرّصات العقائدية إلى واقعٍ ميداني، فعلى مدى عقود، وفّرت الولايات المتحدة للكيان الصهيوني مساعداتٍ عسكريةً تفوق 3.8 مليار دولار سنوياً، بينما تغضّ أوروبا الطرف عن انتهاكاته بحق الفلسطينيين، وتدخل معه في شراكات واستثمارات ليس أقلها صفقات السلاح وجسور الإمداد التي لا تتوقف رغم التصريحات والتنديدات النادرة، التي تحاول تحسين الصورة الإنسانية وتخفيف الضغط الشعبي، فعلى سبيل المثال يُظهر تحليل معهد "MEPEI" أن "الحماية الذاتية" التي يدّعيها الكيان تُعتمد كلياً على الدعم الغربي، ما يجعل مشروع "إسرائيل الكبرى" قراراً دولياً، وليس خياراً إسرائيلياً فقط.
كما أنّ الغرب لا يكتفي بالدعم المادي للكيان، بل يُشرعن المشروع عبر سياسات التطبيع التي تُهمّش القضية الفلسطينية، ففي الوقت الذي يُعلن فيه نتنياهو عن طموحاته التوسعية، تستمر بعض الأنظمة العربية في التطبيع مع كيانٍ يرفض الاعتراف بحدوده الحالية، مُضحّيةً بأمن أمتها لقاء وهمِ "الأمن والاستقرار".
في المقابل، يبقى الموقف العربي مُحبطاً، فبينما تُحرق غزة بنيران القنابل الأمريكية ويعلن العدو ضم الضفة وفصل جنوبها عن شمالها وعزل القدس وتهديد الحرم الإبراهيمي في الخليل وتُدمير الخرائط العربية على مائدة التوسع الإسرائيلي تمهيداً للتوغلات الميدانية خارج أرض فلسطين، كما يحدث دون مبالغة في القول، في سوريا ولبنان، تكتفي بعض العواصم العربية بإصدار بياناتٍ رمزيةٍ، بينما تُواصل أخرى التطبيع في مسارٍ خياني انقلابي على كل مبادئ ليس الصراع العربي الإسرائيلي وحسب، بل مثبتات الوجود الإنساني ولوازم البقاء العربي الفطري بحدوده الدنيا.
السؤال المُلحّ: كيف لدولةٍ أن تُبرّر التطبيع مع كيانٍ يُعلن أن سيناء جزءٌ من "أرضه الموعودة"؟! كيف تُوقّع اتفاقاتٍ مع عدوٍّ يُعيد تأكيد عدائيته كل يوم؟! لم تنته النكبة في 48، هي اليوم مستمرة وبأسوأ أحوالها ومظاهرها، فمن يعتقد أن التوسع سيتوقف عند غزة، رغم كل الذي حصل من قبل ويجري اليوم، يعيش في وهمٍ كبير.
الجهاد وحمل السلاح في وجه الكيان الصهيوني والمشروع الغربي اليوم هو أوجب الواجبات وأقدس المقدسات، فإذا كان نتنياهو يرى أن ما يقوم به "مهمة حضارية روحانية تاريخية مقدّسة"، فأصحاب الحق والأرض والمعتدى عليهم هم -بالأولى- الأحق بهذه التوصيفات، ومعهم الشرعية السماوية والدينية وحتى القانونية، وقد تجلى في معركة الطوفان أن المقاومة الفلسطينية ليست خياراً تكتيكياً، بقدر ماهي خطُّ دفاعٍ وجوديٌّ عن كل الأمة، ومختصر القول على الأقل في هذه اللحظة أن انهيار المقاومة – لا سمح الله - في غزة قد يفتح الباب لسقوط دولٍ أخرى.
والواقع الذي لا مناص منه أن الأمة العربية أمام خيارين: إما أن تُعيد ترتيب أولوياتها، وتضع القضية الفلسطينية في صدارة مواجهتها للمشروع الصهيوني التوسعي، أو أن تنتظر حتى تصبح سيناءُ أو مكةُ أو بغدادُ الهدف التالي وجزءاً من المشروع ذاته!
(هَا أَنتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ ۖ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ )آل عمران: 118.