أنصار الله. حوار:  يحيى الربيعي

يشهد القطاع الزراعي في اليمن تحولاً جذرياً في فلسفة الإدارة والتنفيذ، حيث انتقل من النماذج التقليدية الفردية إلى نماذج مؤسسية تشاركية تعتمد على منهجية "سلاسل القيمة" ببعديها الاجتماعي والاقتصادي. يأتي هذا التحول استجابةً لفجوة غذائية حرجة، حيث بلغت فاتورة استيراد القمح وحدها نحو 3 ملايين و500 ألف طن سنوياً، مما جعل من قضية الاكتفاء الذاتي ضرورة استراتيجية تتجاوز البعد الاقتصادي إلى البعد السيادي والأمني. 

إن تشكيل مجاميع إنتاجية متخصصة ضمن سلاسل القيمة يمثل حجر الزاوية في خطة التنمية التشاركية التي تجمع بين مكاتب الزراعة  والجمعيات التعاونية ومؤسسة بنيان التنموية، مع تفعيل غير مسبوق للمؤسسات الاجتماعية مثل المساجد والمدارس والمجالس لضمان استدامة الأثر التنموي على مستوى العزل والقرى. 

تستند هذه الرؤية إلى قناعة راسخة بأن النهضة الزراعية لا يمكن أن تتحقق بجهد رسمي معزول، بل تتطلب "ثورة زراعية صانعها المجتمع" عبر التكامل بين الدولة والقطاع الخاص والمكونات المجتمعية. ويهدف هذا التوجه إلى تنظيم جهود صغار المزارعين -الذين يمثلون العمود الفقري للزراعة اليمنية ويمتلكون أكثر من مليون حيازة زراعية- ضمن أطر إنتاجية متكاملة تضمن خفض تكاليف الإنتاج، وتحسين الجودة، وتعزيز القيمة المضافة، بما ينعكس إيجاباً على دخل الأسر الريفية التي تشكل 60% من السكان.

في سياق كسر الحصار الاقتصادي المفروض على اليمن، ومواجهة سياسات التجويع التي يمارسها الكيان الإسرائيلي وحلفاؤه في واشنطن، أجرى موقع "أنصار الله" لقاءً استراتيجيا مع أحد قادة الجبهة التنموية، حيث استعرض المهندس محمد مطهر القحوم، الأمين العام للاتحاد التعاوني الزراعي، ملامح ثورة "التحرر من الارتهان".

وقد كشف اللقاء عن تفاصيل عميقة وتحليلات دقيقة لمسارات الحراك التنموي الذي يشهده الميدان، مؤكداً أن اليمن لم يعد يكتفي بالدفاع العسكري، بل انتقل إلى الهجوم التنموي المنظم لتفكيك شفرات التبعية التي زرعتها الأنظمة السابقة. وفي ما يلي نسرد ملامح هذا التحول الجذري وفقاً لما تم طرحه:

هندسة السيادة؛ الانتقال من الاستهلاك إلى الإنتاج المقاوم

أكدت الأطروحات أن اليمن يمضي اليوم وفق رؤية "هيكلية" تهدف إلى استعادة القرار الوطني من مخالب الوصاية الدولية، حيث أوضح المهندس محمد مطهر القحوم أن الدور الذي يلعبه الاتحاد التعاوني يتجاوز كونه إطاراً تنظيمياً، ليصبح قلب العملية الإنتاجية النابض؛ إذ يسعى الاتحاد من خلال "الجمعيات التعاونية" إلى تجميع الطاقات المبعثرة للمزارعين وتحويلها إلى قوة اقتصادية صلبة قادرة على مواجهة تحديات السوق وحرب الأسعار التي تشنها قوى العدوان.

وكشف المهندس القحوم عن العمق الميداني لمؤسسة بنيان التنموية، مشيراً إلى أن مؤسسة بنيان التنموية اليوم تعمل بروحية "الجهاد التنموي"؛ حيث يتم التركيز على "التنسيق الميداني" كأداة لضمان تدفق الموارد والخبرات إلى أبعد نقطة في الريف اليمني، وهذا المسار الإجرائي لا يهدف فقط إلى تحسين المعيشة، بل يسعى لتجفيف منابع الاختراق الصهيو-أمريكي التي كانت تتسلل عبر "المنظمات الإنسانية" لتعطيل الإنتاج المحلي وإبقاء اليمن تحت رحمة القمح المستورد.

لقد رسم المشاركون صورة لديناميكية التحول اليمني، حيث تترابط مهام "فرسان التنمية" مع خطوط إنتاج الآلات المبتكرة محلياً، لتشكل في مجموعها سداً منيعاً في وجه أطماع الاستكبار؛ فالبيانات التي يتم جمعها في الميدان ليست مجرد أرقام، بل هي "خرائط سيادة" تُبنى عليها قرارات التوسع الزراعي، والمبادرات المجتمعية التي تنفذها القرى بجهود ذاتية هي الرسالة الأقوى بأن زمن اليد التي تمتد لطلب المعونة قد ولى، وحل محله زمن اليد التي تزرع وتصنع وتنتصر.

بهذا الوعي التنموي، يثبت قادة العمل التعاوني والميداني أن اليمن يسير بخطى ثابتة نحو انتزاع "لقمته" من بين أنياب القوى الإمبريالية، محولاً الأرض اليمنية إلى قلعة إنتاجية لا تقبل الانكسار، ومعززاً وحدة الجبهة الداخلية عبر شراكة حقيقية بين المجتمع والدولة في خندق البناء.

الأسس النظرية والمفاهيمية للمجاميع الإنتاجية وسلاسل القيمة

تعتمد المنهجية المتبعة في تشكيل المجاميع الإنتاجية -حسب الأمين العام للاتحاد التعاوني الزراعي، المهندس محمد مطهر القحوم- على إعادة العمل بسلاسل القيمة بما يتلاءم مع واقع المجتمع الريفي والظروف الاستثنائية التي يمر بها البلد. فبينما تركز النظريات الدولية على تحسين كفاءة النقل والتوزيع، يركز النموذج اليمني على "الوعي المجتمعي" كتمهيد ضروري للعمل الاقتصادي.   

تُعرَّف سلسلة القيمة الزراعية بأنها منظومة متكاملة من الأنشطة والجهات الفاعلة لزراعة محصول معين، وتحويله إلى منتجات استهلاكية -عبر الصناعات التحويلية- تعود بالنفع على المزارع والمجتمع والاقتصاد الوطني. وتم تطبيق ذلك عبر المجاميع الإنتاجية التي شُكلت بهدف تنظيم عملية الزراعة وفق التوسع الرأسي الذي يعني التوسع في نفس المساحة من خلال تقليل الكلفة وزيادة الإنتاج، وتشكَّل تلك المجاميع من كبار المزارعين الذين يمتلكون الخبرة الكافية، ويبلغ عدد كل مجموعة ما بين 20 إلى 30 مزارعاً، يرأسهم أكثرهم خبرة ودراية بالجانب الزراعي في المحصول ويسمى ميسراً، على أن تتوفر فيه عدد من الشروط أهمها الخبرة الكافية، والاستعداد للعمل الطوعي في تدريب المزارعين على الطرق الصحيحة والمجدية لتحسين الجودة وزيادة الإنتاج، والتركيز على محاصيل مثل (الحبوب، العسل، الألبان وتربية المواشي، صيد الأسماك...إلخ) لتعظيم الفوائد من وفورات الحجم والتخصص الفني.   

ولايزال الحديث للمهندس القحوم: في قلب المعاناة التي يفرضها حصار قوى العدوان ومحاولات الكيان الإسرائيلي وحلفائه في واشنطن كسر إرادة الشعب اليمني عبر سلاح التجويع، تبرز معركة "السيادة الغذائية" كجبهة مواجهة لا تقل ضراوة عن الميادين العسكرية، حيث صاغ اليمن نموذجاً تنموياً فريداً يتجاوز الأنماط التقليدية المرتهنة للخارج، ليتحول المجتمع من حالة الاستهلاك السلبي إلى فاعل استراتيجي في إدارة موارده.

تبدأ القصة من الجذر الاجتماعي، حيث أعاد اليمن صياغة مفهوم " التنمية" من خلال دفع جيل من "فرسان التنمية" إلى الميدان، وهم شباب تسلحوا بعقيدة العمل الطوعي والمبادرات المجتمعية لكسر قيود الاتكال على المنظمات الدولية المشبوهة التي طالما استخدمت المعونات كأداة للتركيع السياسي، ويكون هؤلاء الشباب نواة لتشكيل الجمعيات التعاونية الزراعية متعددة الأغراض، لتكون ركيزة أساسية للعمل التنموي الزراعي كحلقة وصل بين المجتمع والجهات الرسمية والقطاع الخاص.

ويواصل المهندس القحوم: وبحسب تقارير الميدان، فإن هذا الحراك لم يكتفِ بترميم الجبهة الداخلية، بل ذهب نحو تعزيز الثقة والتعاون المجتمعي، ما أدى فعلياً إلى تقليل النزاعات التاريخية على موارد المياه والأرض، وتوجيه تلك الطاقات نحو البناء بدلاً من الصدام.

ولأن الاستقلال السياسي يظل منقوصاً دون استقلال اقتصادي، اقتحم النموذج اليمني تعقيدات "سلسلة القيمة" بمشرط الجدوى الفنية، حيث تم تفعيل مسار "الزراعة التعاقدية" كدرع يحمي الفلاح من تقلبات السوق وجشع السماسرة المرتبطين بشبكات المصالح العابرة للحدود، ويترافق ذلك مع نظام "القروض البيضاء" ودراسات الجدوى الدقيقة التي تضمن تحفيز الإنتاج المحلي، مما خلق بيئة آمنة تضمن تسويق المحاصيل بأسعار عادلة، وتقطع الطريق أمام سياسات الإغراق التي ينهجها تحالف العدوان السعودي-الاماراتي وقوى الرأسمالية الإمبريالية  لضرب المنتج الوطني وتدمير بنية الاقتصاد المقاوم.

وعلى الصعيد الفني، يؤكد القحوم أن المعركة انتقلت إلى مختبرات الحقول ومخازن البذور، حيث يركز المهندسون والمزارعون على "انتخاب البذور المحسنة بآلات محلية الصنع لمواجهة محاولات تخريب التربة بالبذور المعدلة وراثياً التي تروج لها الشركات الرأسمالية الكبرى، وهذا المسار الفني، المدعوم بالإرشاد الزراعي المكثف، لم يهدف فقط لرفع الإنتاجية لكل هكتار، بل سعى لتحسين معايير الجودة لتضاهي وتتفوق على السلع المستوردة، محققاً بذلك اختراقاً في جدار الحصار التقني والممنهج المفروض على البلاد.

وأشار إلى أن هذه المنظومة تكتمل بإطار تنظيمي محكم يجسد "الإرادة الشعبية"، حيث تلعب المجاميع الإنتاجية -التي تعد امتداداً للجمعيات التعاونية- دورا في تنسيق الجهود ومنع الهدر في الموارد والمدخلات، فبدلاً من العشوائية التي تغذيها سياسات "الفوضى الخلاقة" الصهيو-أمريكية، نجح اليمنيون في إيجاد ميسرين لتنظيم العملية الزراعية وربط حلقات الإنتاج ببعضها البعض، ما يضمن تدفقاً سلساً للمعلومات والمواد، ويحول دون ضياع الثروات الوطنية في دهاليز الفساد، لتتحول هذه المكونات الإجرائية -مجتمعة- إلى صفعة تنموية في وجه كل من راهن على سقوط اليمن في فخ التبعية والارتهان.

نظريات التخصص والنمو الجماعي

تشير الأدبيات الاقتصادية -حسب القحوم- إلى أن المجاميع المتخصصة تحقق كفاءة اقتصادية أعلى مقارنة بالزراعة التقليدية، بفضل تراكم الخبرة الفنية والقدرة على استخدام التقنيات الحديثة. ومع ذلك، فإن النموذج اليمني يتجاوز التخصص الفردي إلى "التخصص الجماعي" عبر المجاميع الإنتاجية، ما يسمح لصغار المزارعين بمنافسة الشركات الكبيرة من خلال تجميع مواردهم. وتمر هذه المجاميع بمراحل تطور تبدأ بالتشكيل، ثم التوعية عبر المدارس الحقلية، وصولاً إلى مرحلة الإنتاج التي يصبح فيها المجتمع قادراً على إدارة سلسلة القيمة بشكل مستقل. 

المكونات المؤسسية لخطة التنمية التشاركية

تعتمد خطة التنمية التشاركية -بحسب أدبيات مؤسسة بينان التنموية- على توزيع دقيق للأدوار بين الجهات الرسمية والمجتمعية، ما يخلق حالة من التكامل التي تمنع الازدواجية وتعظم العائد من خلال الجهات والتدخلات التالية:   

الاتحاد التعاوني الزراعي والجمعيات التعاونية الزراعية كقاطرة للنهوض: وفقا للمهندس القحوم، يعتبر الاتحاد التعاوني الزراعي والجمعيات التعاونية الزراعية، البالغ عددها 295 جمعية، الأداة الحيوية لتعزيز التعاون وتبادل المعرفة والموارد بين المزارعين. في النموذج الحالي، لا تكتفي الجمعية بدور الوسيط، بل تصبح "قائداً ميدانياً" لمسار التنمية عبر:   

  1. تنظيم المزارعين في مجاميع إنتاجية متخصصة على مستوى العزل.   
  2. توفير المدخلات الزراعية (بذور، أسمدة، ديزل) عبر أنظمة القروض البيضاء والضمانات الجماعية.   
  3. قيادة عمليات "الزراعة التعاقدية" التي تربط المزارعين بالمستوردين والتجار، مما يقلل المخاطر التسويقية.   
  4. إدارة الوحدات المجتمعية للحراثة والشق والوقاية لتقليل تكاليف العمليات الزراعية.   

مكتب الزراعة والري؛ المرجعية الفنية والسياسات: ويواصل القحوم: تتولى وزارة الزراعة ومكاتبها في المديريات رسم السياسات العامة وحماية الموارد الزراعية المستدامة. ويتمثل دورها الفني في:   

  • إجراء البحوث التطبيقية لتحسين السلالات النباتية والحيوانية، وتطوير بذور مقاومة للجفاف.   
  • تقديم الدعم الفني والإشراف على برامج الإرشاد الزراعي ومنح التسهيلات للمستثمرين.   
  • مراقبة الآفات الزراعية (مثل الجراد) وتنفيذ حملات المكافحة الوقائية.   
  • بناء قواعد بيانات للثروة الحيوانية والنباتية لضمان التخطيط السليم.   

بنيان؛ هندسة المشاركة المجتمعية: ووفقاً لأدبياتها، تمثل مع مؤسسة بنيان التنموية -بالشراكة مع الاتحاد التعاوني الزراعي والجمعيات التعاونية والسلطات المحلية ممثلة بمدراء المديريات والمكاتب التنفيذية- المحركَ الرئيس لعملية "التعبئة التنموية"، حيث تؤمن بأن التنمية لا بد أن تكون صنيعة المجتمع نفسه. وتعتمد المشاركة المجتمعية على منهجية "ذو القرنين" في بناء "فرسان التنمية"، وتدريبهم لقيادة التغيير في مناطقهم.

ثنائية الجمعيات والفرسان: في مشهد يجسد تلاحم الجبهة التنموية مع خيارات الصمود الاستراتيجي، ينبري "فرسان التنمية" بقيادة الجمعيات التعاونية في المديريات في عموم المحافظات ككتائب طليعية تكسر قيود الحصار الصهيو-أمريكي، محولين الريف اليمني إلى ورشة عمل كبرى تتجاوز مفاهيم الإغاثة التقليدية التي كبلت الإرادة الوطنية لعقود، ليرسم هؤلاء الفرسان -كل في نطاقه- ملامح السيادة الكاملة على الغذاء والموارد.

تستهل هذه الملحمة الميدانية بـ "فرسان البحوث والمسح الميداني" الذين يمثلون العقل الاستخباري للتنمية؛ إذ انطلقوا في العزل والقرى لجمع البيانات وبناء خرائط الموارد الزراعية بدقة متناهية، في خطوة استباقية تهدف إلى كسر حالة العشوائية المعلوماتية التي كانت تفرضها الأجندات الخارجية لتعطيل الإنتاج الوطني، حيث باتت كل قطعة أرض ومصدر مياه مرصودة ضمن رؤية وطنية شاملة تخدم الاكتفاء الذاتي وتفشل رهانات العدو على سياسة التجويع.

وعلى مسافة غير بعيدة، يتحرك "فرسان الإرشاد الزراعي" كجسور معرفية حية، ناقلين أحدث التقنيات والأساليب العلمية إلى قلب الحقول عبر "المدارس الحقلية"، في مواجهة مباشرة مع محاولات التجهيل التقني التي يمارسها الكيان الإسرائيلي وحلفاؤه لضرب جودة المحصول اليمني. وبجانبهم، يذود "فرسان الصحة الحيوانية" عن الثروة القومية من الماشية، مرابطين في القرى لتقديم الرعاية البيطرية اللازمة، والحد من حالات النفوق التي كانت تستنزف مدخرات الأسر الريفية، محولين هذا القطاع إلى رافد اقتصادي صلب يغني عن الاستيراد من الأسواق المرتهنة للغرب.

وفي معركة توفير الإمكانيات، يبرز دور "فرسان البذور والديزل" كمنظمين لخطوط الإمداد اللوجستية، حيث يتولون إدارة توزيع المدخلات الأساسية بصرامة تضمن وصولها إلى مستحقيها من المزارعين الحقيقيين، قاطعين الطريق أمام مافيا الأسواق السوداء وشبكات المنتفعين التي تقتات على أوجاع الشعب تحت غطاء الحصار، مما عزز من كفاءة الدورة الزراعية وضمن استمرارية العطاء في الأرض رغم الشحة المفروضة قسراً للإمكانيات.

وتكتمل هذه السردية النضالية بـ "فرسان المبادرات" الذين أعادوا إحياء قيم التعاون اليماني الأصيل، محفزين المجتمعات المحلية على كسر العجز وتنفيذ مشاريع الطرق والمياه بجهود ذاتية جبارة، ليعلنوا للعالم أن الإرادة اليمنية قادرة على شق الجبال وتشييد البنية التحتية دون انتظار فتات المنظمات الدولية التي طالما استخدمت "المساعدات" كأوراق ضغط سياسي.

وبذلك يثبت هؤلاء الفرسان بمختلف تخصصاتهم أن معركة التنمية في اليمن هي معركة تحرر وطني بامتياز، تهدف إلى اقتلاع جذور التبعية وبناء دولة السيادة والاعتماد على الذات.

تفعيل المؤسسات الاجتماعية في المسار التنموي

على جانب آخر، تؤكد أدبيات مؤسسة بنيان التنموية أن الخطة التنموية الحالية تتميز بدمج المؤسسات التقليدية (المساجد، المدارس، المجالس) في صلب العمل التنموي، لتحويل التنمية من "مشروع" إلى "ثقافة وقيمة أخلاقية".

المسجد مركز التوعية والتربية المجتمعية: يستعيد المسجد دوره التاريخي كمنبر للتوجيه الاجتماعي والاقتصادي، حيث يتم استثمار خطب الجمعة واللقاءات المسجدية لتعزيز قيم العمل التطوعي وروحية "الإحسان" في الإنتاج. ويتمثل دور أئمة المساجد في:   

  • التحشيد للمبادرات المجتمعية مثل صيانة الحواجز المائية وشق الطرق الريفية.   
  • التوعية بأهمية الاكتفاء الذاتي كواجب ديني ووطني لمواجهة الحصار الاقتصادي.   
  • المساهمة في حل النزاعات المجتمعية والمائية التي قد تعيق العمل التعاوني.

المدرسة.. بناء الوعي التنموي لدى الأجيال: تلعب المدارس دوراً مزدوجاً في هذه الخطة؛ فهي محاضن لغرس قيم الانتماء للأرض والعمل الزراعي لدى الطلاب، وهي أيضاً شريك اقتصادي من خلال برنامج "الوجبات المدرسية". يفرض البرنامج على المدارس شراء ما لا يقل عن 30% من احتياجاتها الغذائية من صغار المزارعين المحليين، مما يخلق سوقاً مستقرة وموثوقة تحفز الإنتاج المحلي. كما يتم تفعيل المعلمين كـ "رواد تنمويين" يساهمون في المسوحات الميدانية وتوعية أولياء الأمور.   

المجالس المحلية والعرفية منصات القرار والتنفيذ: تعتبر المجالس مكاناً لتنسيق الجهود بين السلطة المحلية والجمعيات والمجتمع. في هذه المجالس، يتم اختيار "الميسرين" من كبار المزارعين لقيادة المجاميع الإنتاجية، ويتم مناقشة المصفوفات التنفيذية لسلاسل القيمة. وتساهم هذه المجالس في توثيق المبادرات المجتمعية وضمان عدالة توزيع الدعم الحكومي واللوجستي.

الخطوات الميدانية لمسار تشكيل المجاميع الإنتاجية المتخصصة

ويعود الحديث للمهندس القحوم، حيث أوضح أن تشكيل هذه المجاميع يسير وفق مسار زمني وفني دقيق يضمن -وعبر مراحل- الانتقالَ من العفوية إلى التنظيم المؤسسي: 

المرحلة الأولى: الحصر والمسح وبناء قواعد البيانات: تبدأ الخطوة الأولى بالنزول الميداني لفرسان التنمية وممثلي الجمعيات لحصر المزارعين في كل عزلة، وتحديد نوعية المحاصيل والأنشطة الزراعية السائدة. يتم بناء قاعدة بيانات متكاملة تشمل المساحات المزروعة، كميات الإنتاج المتوقعة، والاحتياجات من المدخلات (بذور، أسمدة، معدات).

المرحلة الثانية: اختيار الميسرين وتشكيل المجاميع: يتم اختيار "ميسّر" لكل مجموعة إنتاجية من بين المزارعين الخبراء والمؤثرين في العزلة. يتولى الميسر مهام التنسيق، الإشراف، ونقل الخبرة، ويكون حلقة الوصل بين المجموعة وإدارة الجمعية التعاونية ومكتب الزراعة. يتم تقسيم المزارعين إلى مجموعات متخصصة، مثلاً (مجموعة الحبوب، مجموعة العسل، مجموعة الثروة الحيوانية)، لضمان تركيز الجهود الفنية.

المرحلة الثالثة: إعداد مصفوفة تطوير سلسلة القيمة: تخضع كل مجموعة إنتاجية لعملية تخطيط دقيقة تشمل:

  1. عقد ورش عمل أولية لتحديد العوائق في سلسلة القيمة للمحصول.   
  2. إجراء دراسة جدوى اقتصادية لضمان استدامة المشروع وتحقيق العوائد للمزارعين.   
  3. إعداد مصفوفة تنفيذية تتضمن إجراءات تحسين الجودة، خفض التكاليف، وتحديد مواعيد الزراعة والحصاد.

المرحلة الرابعة: التنفيذ والتدخلات المتكاملة: تبدأ العملية الإنتاجية بتوفير المدخلات عبر الجمعية، مع تقديم خدمات الإرشاد الزراعي المجتمعي و"المدارس الحقلية". يتم إدخال الميكنة الزراعية الملائمة لتقليل الكلفة، مثل فراطات الذرة، وآلات تقطيع الأعلاف، وآلات الخادمة للنحل والعسل، والمجففات الشمسية، وغيرها، والتي يتم تصنيعها محلياً. 

الابتكار المحلي والميكنة في خدمة المجاميع الإنتاجية

بالتزامن مع ذلك، يؤكد المهندس القحوم أن أحد أهم مرتكزات نجاح المجاميع الإنتاجية هو تقليل الاعتماد على التكنولوجيا المستوردة المكلفة، والتوجه نحو ابتكار معدات زراعية محلية تناسب التضاريس اليمنية وتخفض تكلفة الإنتاج.   

في الوقت الذي تحاول فيه القوى الاستعمارية بقيادة واشنطن والكيان الإسرائيلي إبقاء اليمن سجيناً في دائرة الاحتياج التقني والارتهان للاستيراد، فجّر العقل اليمني ثورة صناعية زراعية من رحم الحصار، محولاً التحديات إلى آلات مبتكرة تكسر قيود التبعية، وتمنح المنتج المحلي قيمة مضافة تجعله سلاحاً فعالاً في معركة الاستقلال الاقتصادي.

تتصدر "فراطة الذرة الشامية" هذا المشهد الابتكاري، وهي آلة صُممت بعبقرية يمنية لتكون مزدوجة التشغيل (يدوية وآلية)، مع سهولة فائقة في الصيانة تناسب ظروف الميدان؛ حيث تمكنت هذه الآلة من إنهاء الطرق البدائية المجهدة، محققةً قفزة في سرعة فصل الحبوب وتقليل الفاقد بعد الحصاد، وهو ما يعني عملياً تأمين كميات أكبر من الغذاء، وتوجيه صفعة لسياسات التجويع التي يراهن عليها العدو.

ولأن الشمس اليمنية هي مورد سيادي لا يمكن حصاره، برز "المجفف الشمسي" الذي يعمل بطاقة اقتصادية لا تتجاوز 15 وات، ليحدث ثورة في عمر المحاصيل التسويقي؛ فهذا الابتكار لم يعد مجرد أداة لتجفيف الفواكه والخضروات، بل صار وسيلة استراتيجية لمنع تلف الإنتاج الوطني، وتحويل الفائض إلى منتجات قابلة للتخزين والبيع على مدار العام، ما يقطع الطريق أمام ضغوط الأسواق المرتهنة للخارج.

وفي ذات السياق من الكفاءة، يقف "الغربال الشمسي" بإنتاجيته العالية التي تصل إلى 600 كجم في الساعة، ليكون حائط الصد الأول في رفع الجودة السعرية للمحاصيل؛ حيث يقوم بتنقية الحبوب من الشوائب بدقة متناهية، واضعاً المنتج اليمني في صدارة المنافسة. وتكتمل هذه الحلقة بـ "آلة تقشير الحبوب" المخصصة للأرز والمحاصيل المحلية، والتي لم تكتفِ بتخفيف معاناة المزارعين اليدوية، بل نجحت في تحويل المواد الخام إلى منتج نهائي جاهز للاستهلاك، ما يعزز مفهوم "من الحقل إلى المائدة" بقرار سيادي خالص.

أما على صعيد التميز العالمي، فقد جاء "خط إنتاج العسل" بمراحله الخمس التي تشمل الفرز والتصفية والتعبئة، ليتوج العسل اليمني ملكاً على عرش الجودة العالمية بمعايير دوائية دقيقة؛ فهذا المسار الفني لم يرفع من القيمة التصديرية فحسب، بل أكد قدرة اليمن على امتلاك ناصية التصنيع وفق أرقى المواصفات، محولاً الابتكار المحلي إلى أداة لكسر الحصار الاقتصادي وبناء اقتصاد مقاوم لا يقبل الانكسار.  

ويؤكد الفحوم أن هذه الابتكارات -التي أنتجتها المؤسسة العامة لتنمية وإنتاج الحبوب ومؤسسة بنيان- تساهم في "كسر فيتو الزراعة" وتحقيق استقلالية تكنولوجية تدعم صغار المنتجين. 

الزراعة التعاقدية كأداة لاستقرار الأسواق ودخل المزارع

في سياق متصل، تمثل الزراعة التعاقدية، وفقاً لإيضاحات المهندس القحوم: جوهر البعد الاقتصادي في خطة التنمية التشاركية. فهي تضمن للمزارع سوقاً لمنتجه قبل البدء بالزراعة، وتضمن للمستورد أو التاجر منتجاً محلياً بجودة عالية كبديل للمستورد.

آلية عمل الزراعة التعاقدية:

  1. التعاقد الثلاثي: يتم توقيع عقود بين الجمعية التعاونية (ممثلة للمزارعين) وبين الشركات التجارية أو المستوردين، بإشراف وزارة الزراعة.   
  2. توفير الضمانات: تقدم الجمعيات القروض البيضاء للمزارعين بضمانة المحصول المتعاقد عليه.   
  3. الالتزام بالمعايير: يلتزم المزارعون في المجاميع الإنتاجية باتباع توصيات الإرشاد الزراعي لضمان مطابقة المحصول للمواصفات المطلوبة.   
  4. الإحلال محل الواردات: يتم التركيز على محاصيل العجز الاستراتيجي مثل: الثوم، البقوليات، والحبوب، لتقليل فاتورة الاستيراد وتوفير العملة الصعبة.   

حققت هذه الآلية نجاحات ملموسة في محاصيل مثل الثوم المحلي والبطاطس، حيث ساهمت في استقرار الأسعار وحماية المزارعين من تقلبات السوق المفاجئة.

الأثر التنموي والاجتماعي على مستوى العزل والأسر الريفية

يؤكد المهندس القحوم أن الهدف النهائي لمسار تشكيل المجاميع الإنتاجية هو تحقيق أثر مستدام يلمسه المواطن في معيشته اليومية وفي استقرار أمنه الغذائي.

تحسين مستوى المعيشة ودخل الأسر: تساهم المجاميع الإنتاجية في زيادة دخل الأسر الريفية عبر محورين: زيادة الإنتاجية وخفض الكلفة. على سبيل المثال، في قطاع الألبان أدى ربط مربي الماشية بمصانع الألبان عبر جمعيات تجميع الحليب إلى زيادة عدد الموردين وتحسين ظروفهم المالية بشكل كبير. كما تتيح الصناعات التحويلية الصغيرة (مثل تجفيف الطماطم أو تعبئة البقوليات) فرص عمل إضافية للشباب والنساء في القرية، مما يعزز الاقتصاد المحلي.

تعزيز الأمن الغذائي والصمود الوطني: يمثل الانتقال نحو الإنتاج المحلي صمام أمان في مواجهة الأزمات العالمية واضطرابات سلاسل الإمداد الدولية. فاليمن -الذي يعاني من حصار اقتصادي- وجد في "الاقتصاد المقاوم" -القائم على الزراعة- سبيلاً للصمود. المجاميع الإنتاجية المتخصصة في الحبوب والبقوليات تساهم في تقليص الفجوة الغذائية، حيث تشير البيانات إلى إمكانية زيادة إنتاج الهكتار الواحد من الحبوب بنسبة تصل إلى 70% في حال تحسين الممارسات الزراعية.

المبادرات المجتمعية خيار استراتيجي: أثبت المجتمع اليمني قدرة هائلة على العطاء من خلال المبادرات المجتمعية التي بلغت تكلفتها خلال عام واحد أكثر من 26.8 مليار ريال. هذه المبادرات شملت شق طرق ريفية بطول آلاف الكيلومترات، وصيانة مئات الحواجز المائية، ما سهل وصول المجاميع الإنتاجية إلى الأسواق وخفض تكاليف النقل. 

التحديات والآفاق المستقبلية لبناء نماذج مستدامة

ونختتم حوارنا مع أمين عام الاتحاد التعاوني الزراعي، المهندس محمد مطهر القحوم بكلمة أخيرة أكد فيها أنه: على الرغم من الإنجازات المحققة، يواجه مسار تشكيل المجاميع الإنتاجية تحديات تتطلب استمرار تضافر الجهود بين الجهات الرسمية والمجتمعية.

التحديات البيئية والمناخية: تعاني اليمن من ندرة المياه وتدهور التربة وزيادة وتيرة الكوارث الطبيعية الناتجة عن التغير المناخي. يتطلب ذلك التوسعَ في تقنيات "الزراعة الذكية مناخياً"، وتطوير أصناف بذور تتحمل الإجهاد المائي. كما يبرز تحدي استنزاف المياه الجوفية في محاصيل معينة، ما يستدعي تدخلاً تنظيمياً قوياً من مكاتب الزراعة لفرض نظم ري حديثة.

استدامة التمويل والاستثمار: يعتبر ضعف الإنفاق الحكومي التاريخي على الزراعة عائقاً هيكلياً، حيث كان يمثل 0.41% فقط من الناتج المحلي الإجمالي. الحل يكمن في تعزيز دور "صناديق التمويل والتشجيع الزراعي"، وتفعيل القروض البيضاء التي تديرها الجمعيات، مع تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في سلاسل القيمة عبر شراكات عادلة مع المجاميع الإنتاجية.

الهجرة العكسية وتوطين التنمية: تساهم النجاحات في القطاع الزراعي في خلق جاذبية للريف، ما يحد من الهجرة نحو المدن المزدحمة. الرؤية المستقبلية تسعى إلى تحويل كل عزلة إلى "وحدة إنتاجية متكاملة" تمتلك بذورها ومعداتها وأسواقها الخاصة، ما يحقق استدامة تنموية شاملة.   

ختاما، يعد مسار تشكيل المجاميع الإنتاجية المتخصصة في اليمن مشروعاً وطنياً لإعادة صياغة العلاقة بين الأرض والإنسان والمؤسسات. إن التكامل بين فرق الجمعيات ومكاتب الزراعة ومؤسسة بنيان وبقية الجهات والمؤسسات والمكونات الرسمية والشعبية، مدعوماً بتعبئة مجتمعية عبر المساجد والمدارس، يمثل أنموذجاً فريداً للتنمية التشاركية في مناطق الصراع. إن البناء على هذه النماذج في المرحلة القادمة سيضمن تحويل اليمن من بلد مستورد للغذاء إلى بلد يحقق سيادته الغذائية بسواعد أبنائه، ما ينعكس استقراراً في دخل الأسر الريفية ومنعةً للاقتصاد الوطني في وجه التحديات العالمية. إن استمرار هذا الزخم التنموي يتطلب مأسسة العمل التطوعي، وتطوير الابتكار المحلي، وتعزيز الشفافية والحوكمة في الجمعيات التعاونية لضمان وصول ثمار التنمية إلى كل قرية وعزلة في ربوع الوطن.