يؤكِّد على حقيقةٍ مهمةٍ جدًّا، يقول "جلَّ شأنه": {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، النصر هو من عند الله فقط، لا يمكن أن تراهن على التعزيزات، ولا على الإمكانات، ولا على القدرات... ولا على أيِّ شيءٍ آخر، هي كلها وسائل، هي مهمة كوسائل، وعليك أن تعدَّ فيها ما تستطيع، وأن تقدِّم فيها الممكن والمتاح، لكن لا تراهن عليها هي، لا تعلِّق عليها أملك، لا توجِّه إليها رجاءك. ليكن أملك بالله، رجاؤك في الله، توكلك على الله، اعتمادك على الله، التجاؤك إلى الله؛ لأن البعض من الناس عندما تصل إليهم مثلاً تعزيزات، أو تصل إلى أيديهم وسائل معينة تساعد في الموقف العسكري: أنواع معينة من السلاح، إمكانات معينة، قدرات معينة، قد يطمئنون إليها بأنها هي ستساعدهم على حسم المعركة وكسبها؛ فيقِّل التجاؤهم إلى الله، ويضعف شعورهم بالاعتماد والالتجاء إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، برهانهم على كثرة عدد، أو على توفير عدة، وتحصيل إمكانات، وتوفر قدرات، ضعف اعتمادهم على الله، وكبر اعتمادهم على تلك الإمكانات، أو تلك التعزيزات، أو تلك القدرات، أو تلك الخطط... أياً كانت، فأثَّر عليهم سلباً؛ فتكون النتيجة هي أن يخسروا المعركة، أن يتراجعوا وأن يفشلوا في تلك المهمة العسكرية، فلا بدَّ من أن يكون الالتجاء في كل الأحوال:
في الوقت الذي أنت تشعر فيه بقلة العدد، بقلة العدة، بضعف الإمكانات، بالظرف الصعب والحسَّاس، بكبر التحديات، في هذه الحالة تلتجئ إلى الله، وتعتد على معيته، وتؤمِّل فضله، وترجو نصره، وتبقى في حالة استغاثة ودعاء وعمل.
أو في الحالة التي توفرت لك فيها التعزيزات، وتوفرت لك فيها إمكانات وقدرات، وأعددت فيها الترتيبات التي تعتبرها ترتيبات عملية ناجحة، في هذه الحالة أيضاً لا بدَّ أن تبقى في حالة التجاء إلى الله، شعور بالافتقار إلى الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، شعور بالعجز، أنك لا شيء من دون الله، والقوة بالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" وبتأييده وبنصره، فلا غرور عند توفر التعزيزات والإمكانات والقدرات، وعند استتمام واستكمال الترتيبات التي تعتبر ترتيبات يعوَّل عليها في النجاح، ولا انهيار أمام المخاوف، أمام الظروف الصعبة والمعاناة، أمام التحديات الضاغطة.
{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، فالنصر بيده "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، وهو "جلَّ شأنه" الذي يتخذ القرار بالنصر ويمد بالنصر، حتى ملائكته لا تمتلك ذلك من دونه أبداً، {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}، ومن عزته ومن حكمته أن ينصر عباده المؤمنين الذين هم في موقف الحق، إذا استجابوا له، وأدوا ما عليهم، والتزموا بتوجيهاته، وأخذوا بأسباب النصر، فمن عزته أن ينصرهم، ومن حكمته أن ينصرهم.
الدعم الإلهي الخاص والمتميز
{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ}[الأنفال: الآية 11].
تاريخياً: وصل المسلمون مساءً إلى منطقة بدر، وعسكروا في حافة الوادي الأقرب إلى المدينة، وفي مساء تلك الليلة باتوا هناك، وكانوا بحاجة إلى أن يشعروا بالاطمئنان، وأن يأخذوا قسطاً من الراحة؛ ليستعدوا للمعركة في اليوم الثاني، فالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" منحهم من السكينة ومن الاطمئنان ما ساعدهم على أن يحظوا بهذه الراحة المطلوبة، والتي توفرت لهم عن طريق النعاس الذي أمدَّهم الله به، وغشاهم به، عندما كان يغشيهم النعاس، كان يصحبه الشعور بالاطمئنان، بالأمن؛ فكانت عملية طمأنة إضافية، تساعد على الراحة النفسية، والاطمئنان القلبي، وعلى اطمئنان النفس الذي يساعد على التهدئة من التوتر والاضطراب والقلق، وتهدئة الأعصاب، فهم استفادوا من هذا النعاس الذي كان يأتي كنعاس {أَمَنَةً}، يشعرون معه بالاطمئنان وبالأمن، النعاس: هو النوم الخفيف المتقطع؛ لأنهم في تلك الحالة لا يناسب أن يمنحهم الله نوماً كاملاً، وأن يغطوا في النوم ويخلدوا إلى النوم بشكلٍ كامل إلى الصباح، الميدان ميدان معركة، لا بدَّ فيه من الانتباه، ولا يناسب أيضاً أن يكونوا في تلك الليلة في حالة توتر شديد، ولا يحظوا بأي شيءٍ ولو بمقدارٍ بسيطٍ من النوم، وأن يبقوا [محدقين] ومستيقظين، وفي حالة قلق وتوتر طوال الليل، فيذهبون إلى المعركة في اليوم الثاني ولا زالت أعصابهم متعبة نتيجة توترهم طوال تلك الليلة، فأتاهم النعاس من الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى"، الذي كان معه الشعور بالأمنة والاطمئنان، هذا من الدعم الإلهي، دعم خاص ومتميز، لا يمكن أن يحصل الإنسان عليه من أي طرفٍ آخر.
{وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ}، والنعمة الأخرى التي أمدهم الله بها، ومثَّلت أيضاً جزءاً من هذا الإمداد، من هذه الرعاية، من هذه المعونة المتتابعة: نزول الملائكة، تغشية النعاس أمنة، أيضاً إنزال المطر، إنزال الغيث، نزَّل الله عليهم من السماء ماءً، وهذا الماء كانوا في أمسِّ الحاجة إليه؛ لأن الأعداء كانوا قد سبقوهم إلى آبار المياه، وكان لهذا الماء فوائد متعددة:
{لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ}، يستفيدون منه للطهارة: الطهارة للصلاة، وللاغتسال، وللنظافة، ولما يستفيدون به من الاغتسال بذلك المطر (بذلك الماء) من راحة الجسم، من حيويته، من انتعاشه بالاغتسال، فهذه الطهارة للصلاة، وهذه الحيوية والانتعاش التي تحصل بالاغتسال، وهذه النظافة لها فائدة مناسبة ومطلوبة وصحية.
{وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ}، رجز الشيطان: وساوسه القذرة؛ لأن الشيطان قد استغل حالة انعدام الماء، وسيطرة العدو على الماء؛ ليوسوس، ويزرع المخاوف والهواجس: [أنكم قد تموتون عطشاً، من أين ستحصلون على الماء؟ قد سيطر العدو على الماء، كيف سيتوفر لكم الماء؟]، فهو يلعب من خلال هذه المشكلة ويستغلها، والشيطان يستغل أي مشكلة أو أي ظروف؛ ليحاول التأثير من خلالها، فهو يحاول أن يستغل انعدام الماء وسيطرة العدو عليه؛ لإثارة الهواجس والخوف والقلق تجاه ذلك، فعندما أتى غيث الله، أتى الماء من السماء، ونزل الغيث، توفر الماء بشكلٍ كبير، واستفادوا منه، وعملوا الحياض التي احتوته؛ ليستفيدوا منه أيضاً في اليوم الثاني، وتوفر لهم ما يكفيهم من الماء، واحتلت هذه المشكلة.
والفائدة الأخرى: {وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ}، وسيلةً أيضاً مع إذهاب وساوس الشيطان وسيلة للربط على القلوب، وفي المعركة، وفي ميدان الصراع يحتاج الإنسان إلى الربط على قلبه؛ لتبقى معنوياته عالية، ليبقى متماسكاً، ليبقى كذلك ثابتاً ورابط الجأش؛ حتى لا يعيش حالة الاضطراب والقلق في قلبه التي تؤثر عليه.
{وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ}، فهذا الشد على القلب، وهذا الربط على القلب يساعد على بقاء التماسك والروح المعنوية العالية، والتي لها أهمية كبيرة جدًّا في المعركة.
{وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ}، في ميدان المعركة، الميدان الذي سيلتقي فيه الجمعان (في بدر) كان منطقةً رملية، وكان القتال فيها صعباً؛ سواءً بالنسبة للمشاة أو للفرسان، لكن بالنسبة للمسلمين كانوا- تقريباً- كلهم مشاة، ما عدا فرساً واحداً كان معهم، فسيصعب عليهم القتال في منطقة رملية تنزل فيها أرجلهم، ويصعب عليهم التحرك الذي يستلزمه القتال؛ لأن للقتال حركته المناسبة.
فالله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" من خلال ذلك المطر قدَّم هذه المساعدة الكبيرة التي تغير الوضع في ميدان المعركة نفسه، نفس هذا الميدان يتحول إلى مكان متماسك، مكان ثابت، مكان صُلب؛ نتيجةً للمطر، فهذه كانت نعمةً كبيرة، فهيأ الله لهم حتى ميدان المعركة، ووفر لهم كل الظروف المساعدة على الانتصار، وحل لهم المشكلات التي تمثِّل ثغرةً عليهم يستغلها حتى الشيطان في وساوسه، ولها تأثيرات في الواقع، لو لم يتوفر الماء وعانوا من العطش، كان هذا سيجهدهم حتى بدنياً، فكيف كانت هذه الرعاية الإلهية؟ كيف كانت الاستجابة من الله لـمَّا استغاثوه، وتوفر من خلالها هذا المدد المتنوع والمتعدد؟
هذا فيه درسٌ مهمٌ لنا: أن الله "سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى" يتدخل ويمنُّ برعاية واسعة، ويهيئ الكثير من الظروف والعوامل التي تساعد على الانتصار، والتي توفر من خلالها الظروف المساعدة للإنسان في موقفه.
من المحاضرة الرمضانية الـ20 للسيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي بتاريخ 19 رمضان 1441هـ 12 مايو 2020م