موقع أنصار الله ||مقالات ||فهد شاكر أبوراس

في خضم التطورات المتسارعة منذ الإعلان عن الاتّفاق المبرم بين صنعاء وواشنطن، برزت معطيات جديدة تكشف أن ما تم الإعلان عنه في الاتّفاق من شروط لم تكن سوى القشرة الظاهرة من الاستراتيجية اليمنية الأكثر عمقًا من وقف العدوان على اليمن الهادفة إلى إحداث تغيير جذري في موازين القوى الإقليمية، حَيثُ أظهر التوتر العلني بين واشنطن وتل أبيب عقب الإعلان عن الاتّفاق مدى نجاح صنعاء في تحويل التفاهم المعلن إلى ورقة ضغط فعالة ضد التحالف الأمريكي الإسرائيلي؛ ما يؤكّـد أن شروط صنعاء تتجاوز وقف العدوان على اليمن إلى أبعاد استراتيجية غير معلَنة تهدف إلى عزل الكيان الصهيوني كليًّا عن العالم، بدءًا بحظر ملاحته البحرية والجوية، ثم العمل على زعزعة تحالفاته الاستراتيجية والعسكرية والبداية من واشنطن، فقد عبر الكيان الصهيوني عن غضبه الشديد من اتّفاق واشنطن المبرم مع صنعاء واعتبره تنازلًا خطيرًا يهدّد مصالحه، بينما تجد واشنطن نفسها في موقف دفاعي تحاول فيه تبرير خطوتها دون أن تخفي ارتباكها الواضح تجاه ردة الفعل الصهيوني، وهذا الارتباك ليس سوى البداية لما تعد به صنعاء من تطورات قادمة ستزيد من حدة هذا التوتر كلما استمر العدوان الصهيوني على قطاع غزة، حيثُ إن صنعاء تمتلك أوراق ضغط إضافية لم تُكشف بعد، وهي مستعدة لاستخدامها تباعًا لفرض المزيد من الشروط التي تضع واشنطن أمام خيارات صعبة، فالقدرات العسكرية اليمنية المتنامية والمتمثلة في الصواريخ الباليستية والفرط صوتية والطائرات المسيرة وسيطرتها الكاملة على الملاحة البحرية في المنطقة تمنح صنعاء أوراق فعالة للضغط المُستمرّ، كما أن الموقف الشعبي العربي الداعم للموقف اليمني يزيد من قوة هذه الأوراق، مما يجعل واشنطن في مأزق حقيقي بين الحفاظ على تحالفها مع تل أبيب أَو الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، وهذا يظهر براعة المناورة اليمنية والتي استطاعت تحويل التهديدات ضدها إلى فرص وأدوات تفاوض فعالة لصالحها، فبينما تظن واشنطن أنها تمكّنت من تأمين ملاحتها البحرية من خلال الاتّفاق مع صنعاء، ستجد نفسها مستقبلًا أمام معادلات جديدة تفرض عليها مراجعة حساباتها الإقليمية بالكامل، فصنعاء اليوم أصبحت قوة إقليمية ولن تتردّد لحظة في العودة إلى التصعيد العسكري إذَا لم تتحقّق مطالبها الكاملة والتي أصبح من الواضح أنها تتجاوز اليمن إلى القضية الفلسطينية وباقي قضايا الأُمَّــة، فتصريحات صنعاء الأخيرة تؤكّـد أن أي تقدم -في مسار تنفيذ شروط الاتّفاق مع واشنطن- مرهون بما هو أبعد من وقف العدوان على اليمن وسوف يمتد إلى وقف الدعم العسكري الأمريكي للكيان الصهيوني في العدوان على غزة، مما يعني أن صنعاء تضع القضية الفلسطينية في صُلب أية تفاهمات مستقبلية، وهذا ما يفسِّرُ حالةَ غضب الكيان من ذلك الاتّفاق، حَيثُ بات يدرك جيِّدًا أنه لم يعد الطرف الوحيد الذي يتحكم في القرار الأمريكي، بل أصبح هناك طرف آخر يفرض شروطه بقوة السلاح والإرادَة، واللافت في المعادلة أن صنعاء لا تحتاج حتى إلى إعلان شروطها بشكل رسمي، فمُجَـرّد التلويح بإمْكَانية استئنافها للعمليات العسكرية كاف لخلق حالة من عدم الاستقرار تضغط على واشنطن، وهذا ما يفسر التحَرّك الأمريكي المحموم مؤخّرًا لاحتواء أزمة واشنطن مع تل أبيب، في محاولة فاشلة وغير مجدية خَاصَّة في ظل استمرار العدوان الصهيوني على غزة ولبنان وسوريا، وتنامي الغضب الشعبي العالمي، مما يضعف الموقف التفاوضي الأمريكي ويقوي يد صنعاء في المطالبة بخطوات أكثر جرأة، وفي هذا السياق، من المتوقع أن المرحلة القادمة ستشهد تصعيدًا يمنيًّا يدفع واشنطن نحو المزيد من التنازلات، قد تصل إلى حَــدّ تخفيض مستوى الدعم الأمريكي للكيان الصهيوني وفرض قيود على المساعدات العسكرية، وهنا تبرز العبقرية الاستراتيجية اليمنية والتي تربط وبشكل ذكي بين الملف اليمني والقضية الفلسطينية، بحيثُ إن أي تقدم بالنسبة لصنعاء في المِلف الأول مرهون بتقدم الملف الثاني، وهذا يجعل واشنطن في حيرة من أمرها بين الإبقاء على تحالفها الاستراتيجي مع تل أبيب، أَو حماية مصالحها الاقتصادية والعسكرية في المنطقة، وفي كلتا الحالتين، فَــإنَّ صنعاء هي الرابح الأكبر؛ لأَنَّها استطاعت ببراعة نادرة أن تحول نفسها من طرف في صراع محلي إلى لاعب إقليمي مؤثر يفرض شروطه على القوى الكبرى، ويكفي النظر إلى حدة التوتر بين واشنطن وتل أبيب لقياس مدى نجاح هذه الاستراتيجية، فبينما كانت العلاقات الأمريكية الصهيونية توصف بالقداسة، ها هي اليوم تتعرض لاختبار حقيقي؛ بسَببِ ضغوط طرف ثالث لم يرد يومًا في حسابات واشنطن، وهذا بحد ذاته يعد إنجاز استراتيجي كبير يصب في صالح القضية الفلسطينية ويعيد تشكيل التحالفات الإقليمية لصالح محور المقاومة، فالصراع لم يعد كما كان، والقواعد تغيرت، وصنعاء اليوم تكتب فصلًا جديدًا من فصول المواجهة، وأثبتت أن الإرادَة الصلبة والعزيمة وامتلاك القضية، بإمْكَانها فرض واقعًا جديدًا حتى على أعتى القوى العالمية، وأن المعادلات الإقليمية لم تعد حكرًا على القوى التقليدية، بل أصبح بإمْكَان القوى الصاعدة أن تفرض نفسها كفاعل رئيسي في صناعة القرار الإقليمي، وهذا بالضبط ما تفعله صنعاء، حَيثُ تحولت من موقع الدفاع إلى موقع الهجوم الاستراتيجي، وفرضت شروطها ليس فقط على واشنطن، بل على الكيان الصهيوني نفسه، والذي بدأ يشعر اليوم بتهديد حقيقي لمصالحه لم يعد قادمًا من محور المقاومة فحسب، بل من عمق الجزيرة العربية هناك، حَيثُ يقف اليمن كحارس أمين للقضية الفلسطينية، ومنبعًا للاستراتيجية الجديدة في مواجهة المشروع الصهيوني.