موقع أنصار الله ||مقالات ||عبدالله عبدالعزيز الحمران

قراءةٌ في الزمن والمعنى والمَآل:

في التاريخ، هناك لحظات تُولد من رحم المعاناة، لكنها تغيّر الموازين وتعيد تشكيل الإدراك الجمعي. السابع من أُكتوبر 2023 كان إحدى تلك اللحظات المفصلية. لحظة لم تنفجر فجأة، بل كانت نتيجة تراكم طويل من الظلم، والتغاضي الدولي، والتواطؤ الإقليمي، والصبر الاستراتيجي الذي راكمته قوى المقاومة في غزة ومحيطها. لكنّ المفارقة أن هذا اليوم الذي أراده الكيان الصهيوني ذريعة لشن أوسع حملة إبادة على غزة، تحوّل إلى نقطة تحوّل في وعي الأُمَّــة، بل والعالم، وإلى بداية العد التنازلي لنهاية كيان لطالما ظُنَّ أنه باقٍ بحكم القوة.

منذ السابع من أُكتوبر، دخل الكيان مرحلة جديدة من الإنهاك التاريخي. فبعد أن كان يفاخرُ بسُرعة حسمه للحروب، ويضعُ لنفسه جداولَ زمنية مضمونة للإنجاز، ها هو يجد نفسه، بعد عامٍ كامل، عالقًا في حرب مفتوحة، غارقًا في رمال غزة، بلا نصر، بلا هيبة، وبلا أفق.

 

زمنُ المقاومة.. في مقابل زمن الكيان:

على الضفة الأُخرى من الزمن، هناك زمن المقاومة؛ زمن لا يُقاس بالساعات ولا بالأيّام، بل بالتحمل والصبر والإبداع والمراكمة الهادئة. منذ عقود، كانت المقاومةُ تُبنى بهدوء: نفقٌ هنا، صاروخٌ هناك، وعيٌ متراكم، أجيال تتربى على الحكاية لا على النسيان. في حين أن زمن الكيان كان زمنًا صناعيًّا هشًا: انتصارات خاطفة، احتلالات صامتة، تحالفات قائمة على الرعب لا على الشرعية.

لكن الزمن الذي يصنع الحياة، أطول نَفَسًا وأعمق أثرًا من الزمن الذي يصنع الرعب. واليوم، نرى أن هذا الكيان الذي تأسس بدعم استعماري، وتوسع بغطاء دولي، لم يعد قادرًا على إقناع العالم بأكاذيبه القديمة. حتى حلفاؤه التقليديون باتوا يتحدثون بقلق عن "ما بعد الحرب"، و"كيف نمنع انهياره"، لا عن "كيف ينتصر".

 

العالم يتغير.. والكيان يتآكل:

الديناميكيات الدولية اليوم لم تعد كما كانت. عالم ما بعد الحرب الأوكرانية، والتحولات في موازين القوى بين الشرق والغرب، وتراجع الثقة في الخطاب الأمريكي، أوجد بيئة جديدة لم تعد فيها "إسرائيل" قادرة على احتكار رواية المظلومية. لقد انكشفت على حقيقتها: كيان استعماري احتلالي يمارس الإبادة الجماعية أمام أنظار العالم.

بل إن حركات التضامن العالمي اليوم أصبحت أوسع من أن تُحتوى، وأكثر وعيًا من أن تُخدَع، وأشدّ إصرارا على فضح الكيان من أي وقت مضى.

الجامعات الغربية، والشارع الأمريكي، والمثقفون العالميون، باتوا يتحدثون بلسان مختلف. لم يعد أحد يسأل: "لماذا تقاوم غزة؟"، بل: "كيف يصمد هذا الشعب أمام آلة الإبادة؟".

 

بين نشأة الكيان وزمن نهايته:

حين أُنشئ الكيان عام 1948، ظنّ مؤسّسوه أنه مشروع قرن كامل على الأقل. لكن قراءة تاريخية دقيقة تكشف أن عمره الحقيقي لم يكن إلا سلسلة من الأزمات والتدخلات الخارجية التي منعته من السقوط لا أكثر. من أزمة اجتياح بيروت، إلى انتفاضات الداخل، إلى حرب تموز، وُصُـولًا إلى صمود غزة المتكرّر، كلها حلقات تؤكّـد أن هذا الكيان لم يستطع بناءَ أمن داخلي حقيقي ولا مشروع سياسي مقنع، بل بقي كيانًا محكومًا بالخوف، يختبئ خلف الجدران، ويعيش على المعونة الدولية والدعم العسكري الأعمى.

وها هو اليوم، بعد أكثر من سبعة عقود، يعود ليحتمي بالجدران، ويستجدي الدعم، ويرتكب المجازر لا ليبني مستقبلًا، بل ليؤجل النهاية.

 

الختام: حَيثُ ينكسر الزمنُ الكولونيالي:

إن ما نشهده اليوم ليس مُجَـرّد حرب أُخرى على غزة، بل انكسار لزمن كامل من الاستعمار المقنّع والهيمنة المطلقة. فالمقاومة لم تعد تقاتل فقط؛ مِن أجلِ الأرض؛ بل مِن أجلِ المستقبل؛ مِن أجلِ المعنى؛ مِن أجلِ الإنسان. في حين أن الكيان الصهيوني، بكل جبروته، لم يعد يقاتل؛ مِن أجلِ البقاء كدولة "طبيعية"، بل كمشروع استعماري يفقد مبرّراته يومًا بعد يوم.

لقد بات زوال هذا الكيان، بكل ما يمثله من عُنصرية وإجرام، مسألة وقت؛ لا لأَنَّ المقاومة فقط أقوى؛ بل لأَنَّ الزمن نفسه ـ الزمن الأخلاقي، والإنساني، والتاريخي ـ لم يعد في صالحه.