موقع أنصار الله ||مقالات || بشير ربيع الصانع

بكل فخر واعتزاز، ها نحن أمام مشهد قلّما جادت به الأزمنة، وها نحن نكتب عن لحظةٍ تصنع التاريخ لا تكتبه فقط، لحظةٍ تختزل معانيَ النهوض، والانتماء، والبصيرة، والفداء، وتمثل قفزة وعيٍ هائلة في زمن التزييف والارتهان.

ما هي إلا ساعاتٍ تفصل بين نداءٍ صادق من قلبٍ نذر نفسه لله، نداء السيد القائد الذي لا يدعو إلى نفسه، بل يوقظ الهمم نحو طريق الله، وساعات تقود إلى يوم من أَيَّـام الله الخالدة، يومٍ تجلّى فيه نور الولاية واكتمل فيه الدين، يوم الغدير، حَيثُ ارتفعت يدُ الحق لتعلن للعالمين أن الهداية لا تتوقف بموت نبي، وإنما تستمر بوصيّه.

وفي استجابة نادرة المثال، خرج الشعب اليمني ليرسم لوحة بشرية مليونية لم ولن تشهد الدنيا مثلها، مشهد لا تصنعه الكاميرات ولا تفيه شاشات البث، مشهدٌ تهتز له الأرض وتنبض له القلوب، وتفيض به الشوارع بحشودٍ ليست كغيرها، بل هي تعبير حي عن أُمَّـة لم تُطفأ جذوتها، ولم تنطفئ في داخلها شعلة الولاء، مشهدٌ فريد لا يُعادله شيء إلا تلك المواقف التي تُسجَّل في صحائف الخلود.

خرج اليمني لنصرة المظلوم بدعوة الحفيد ووفاءً وولاءً لجده الإمام علي عليه السلام، امتدادا لذلك الخط العلوي الأصيل، خط الحق الذي لا يحيد، وخط الفداء الذي لا يخبو، يسير اليمني وفي قلبه شعلة الجد، الإمام علي، إمام العدل الذي علّم الأجيال أن لا حياد في معركة المظلوم والظالم، فكان الخروج ترجمة عملية للفكرة، وانبعاثًا حيًّا لعقيدة لا تتبدّل.

في هذه الجمعة، التي يعقبها السبت، يوم الثامن عشر من ذي الحجّـة ١٤٤٦هـ، تمهيدٌ رباني ليومٍ من أَيَّـام الله، فيها ترتفع الأرواح وتتهيأ القلوب لموعد العهد والبيعة والولاء، موعد تجديد الانتماء للنهج المحمدي العلوي، حَيثُ يفتح التاريخ صفحته من جديد، ليُسجّل أن اليمنيين كانوا، وسيظلون، في صدارة الموقف لا في هامشه.

خرجوا ليجددوا العهد بالسير في معركة الفتح الموعود والجهاد المقدس، معلنين أن معركتهم لا تُؤجل، وأن جهادهم ليس مؤقتًا، بل ممتد في الزمان والمكان، ليس شعارًا، بل فعلًا، ليس موسميًّا، بل أصيلًا في وجدانهم، يرفضون الظلم أيًّا كان وجهه، ويناصرون كُـلّ حق ولو كان على حساب أرواحهم.

وفي الوقت الذي لا يزال فيه العالم يحتفل ويلهو بمناسبة عيد الأضحى المبارك، كان موقف اليمنيين موقفًا مغايرًا، موقف المستشعر للمسؤولية، الحامل على عاتقه همّ نصرة الدين والدفاع عن المستضعفين، موقف من يُدرك أن الزمان لا يُقاس بالأعياد، بل بالمواقف، وأن أعظم القربات لله هي المواقف الصلبة في أوقات الضعف العام.

وجددوا الولاء لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، الذي يقتدون به في نصرة المظلوم والوقوف في وجه الظالم، وهو الذي قال: "ما رأيت مظلومًا أُريد له الإنصاف كظالم"، علي ليس رمزًا في الذاكرة، بل مشروع حياة، ومنهج عدل، وعقيدة فعل، فكان اليمنيون على عهده، لا يساومون على القيم، ولا يصافحون الجلادين.

فلا غرابة أن تجد شعبًا لا يكلّ ولا يملّ، ويمضي بعزم لا يلين، وإرادَة لا تبرد، في مساندة إخوانه في غزة وفلسطين؛ لأَنَّ فلسطين ليست عندهم قضية موسمية أَو ملفًا سياسيًّا، بل جزء من هويتهم، وجرحهم، وعقيدتهم. هم لم يتعلّموا الحماسة من خطب الشعارات، بل شربوها من معين الولاية، التي تربي الأُمَّــة تربية قرآنية، وتغرس فيها استشعار المسؤولية تجاه قضايا الأُمَّــة، وتجعل من كُـلّ فردٍ جنديًّا في معركة الوعي والتحرير.

وهكذا يبقى اليمن، حين يكتب، يكتب بدمه، وحين يهتف، يهتف بوعيه، وحين يخرج، يخرج بكل جوارحه، لا ليسجّل موقفًا بل ليصنع مصيرًا. هو الشعب الذي لا يشيخ؛ لأَنَّه يسقي شجرة الوعي من دماء شهدائه، ويلبس عباءة الولاية لا كزيّ، بل كهوية. إنها الغديرية اليمانية، لا تكتفي بالاحتفال، بل تجعل من كُـلّ يوم عاشوراء، ومن كُـلّ أرض كربلاء، ومن كُـلّ لحظة ميدان اختبار. وسيبقى اليمن حجّـة في الزمان، وصوتًا في وجه الطغيان، ومنارة تهدي السائرين على درب أمير المؤمنين.