في أعقاب انتصار الجمهورية الإسلامية الإيرانية على العدوان الصهيوأمريكي تخرج طهران اليوم من معركة معقّدة لم تكن مُجَـرّد مواجهة عسكرية بل صراعًا على هُوية المنطقة ومعادلاتها السياسية والأمنية والاستراتيجية. لم تكن هذه المواجهة قصيرة المدى أَو محدودة الأثر بل بدا واضحًا أن ما جرى خلال اثني عشر يومًا من الصراع قد فتح الباب لتحولات عميقة تتجاوز طهران وتطال خارطة النفوذ الإقليمي بالكامل.
إيران: من الدفاع إلى التأثير
السؤال الذي يفرض نفسه اليوم بعد الانتصار الإيراني هو: هل تغيّرت مكانة إيران في الإقليم والعالم؟ والإجَابَة كما يبدو من المعطيات الميدانية والسياسية نعم وبوضوح. لقد أثبتت الجمهورية الإسلامية أنها ليست مُجَـرّد دولة تحمي نفسها بل أصبحت لاعبًا مركزيًّا يملك القدرة على ردع أكبر تحالف عدائي في المنطقة – التحالف الصهيوأمريكي – وإعادة ضبط التوازنات وفقًا لمصالحها ومصالح محور المقاومة.
هذا الانتصار لم يكن رمزيًّا فحسب بل شكّل نقلة نوعية في إدراك الخصوم قبل الحلفاء لطبيعة الردع الإيراني. فإيران اليوم لم تعد تحت سقف التهديد بل كسرت هذا السقف وأثبتت أن الزمن الذي كانت فيه طهران محاصرة سياسيًّا أَو عسكريًّا قد ولَّى.
هل حمت إيران نفسها ومحيطها؟
انتصار طهران لم يكن دفاعًا ذاتيًّا فحسب بل حماية استراتيجية لمحيطها أَيْـضًا. فلو سقطت إيران لتساقطت دول المنطقة الواحدة تلو الأُخرى كأحجار الدومينو. إن صمود إيران وانتصارها في وجه هذا العدوان الضخم أنقذ المنطقة من كارثة مدروسة بعناية هدفها إعادة تشكيل الشرق الأوسط على مقاس "إسرائيل الكبرى" ومشاريع اليمين الصهيوني بقيادة نتنياهو.
لقد كان المقصود من العدوان أن تتحول إيران إلى نموذج العقاب العلني لترتدع من بعدها بقية الدول المناوئة للمشروع الأمريكي الصهيوني. إلا أن ما حدث هو العكس تمامًا: طهران لم تنهار بل انتصرت وفي انتصارها كسرت سلسلة الخنوع التي يُراد تعميمها على المنطقة بأسرها.
إيقاف مشروع نتنياهو... من قلب طهران
العدوان الأخير كان جزءًا من مشروع أشمل لنتنياهو هدفه تحويل الكيان المؤقت إلى المرجعية السياسية والعسكرية العليا في المنطقة وفرض معادلة "الأمن مقابل الخضوع". غير أن الرد الإيراني المنظّم والمدروس أوقف هذا المشروع عند حدّه وأعاد التذكير بأن الكيان الصهيوني ليس إلا قاعدة متقدمة للمشروع الغربي وليس قوة مستقلة ذات سيادة حقيقية.
لقد أراد نتنياهو انتصارًا استراتيجيًّا يصحِّحُ فشلَه في غزة ويستعيد صورة "(إسرائيل) التي لا تُقهر" فجاء الرد الإيراني ليس فقط ليُفشل هذه الغاية بل ليهدم الصورة بالكامل. وهكذا تهاوت فكرة أن "تل أبيب تقرّر وتنفذ دون رد" وعادت المنطقة إلى واقع جديد يفرض على الجميع التفكير ألف مرة قبل استهداف إيران أَو حلفائها.
تحوّل استراتيجي وصناعة معادلات
ما بعد انتصار إيران ليس لحظة عابرة بل نقطة تحول. لقد دخلت المنطقة رسميًّا في عهد "ما بعد أُحادية التفوُّق الصهيوني". فالكلمة العليا لم تعد محجوزة للكيان المؤقت بل باتت تتركز بين قوى مقاومة أثبتت أنها تملك ما يكفي من الوعي والإرادَة والإمْكَانات للرد والصمود والمبادرة.
من الآن فصاعدًا سيتحدث العالم عن إيران بصفتها صانعة للمعادلات لا مُجَـرّد متلقية لها. وسيتحدث الكيان الصهيوني عن خطوط حمراء جديدة لكن ليس من موقع السيّد بل من موقع من يسعى لتفادي مواجهة أُخرى قد لا يستطيع الخروج منها.
بالأخير الانتصار الإيراني الأخير لم يكن نهاية لمعركة بل بداية لمرحلة جديدة عنوانها: من لا يملك قراره ولا يملك ردعه سيكون تابعًا للكيان. أما من يملك السيادة والإرادَة فبوسعه أن يحمي نفسه... ويحمي المنطقة من الانهيار.