في مشهد مهيب يقطع الأنفاس، لم تتحول العاصمة صنعاء وحدها إلى بحر متلاطم من الحشود البشرية المليونية، بل امتدت هذه المليونيات غير المسبوقة لتزلزل ميادين مختلف المحافظات اليمنية اليوم، تحت شعار "لن نتهاون أمام إبادة غزة واستباحة الأُمَّــة ومقدَّساتها".
لقد عكست هذه المليونيات الضخمة، في العاصمة صنعاء ومختلف المحافظات اليمنية، أعمق مستويات الغليان والوجع الذي يعتمل في قلوب الشعب اليمني العظيم، مؤكّـدةً ثباته وشجاعته ووقوفه الأُسطوري مع غزة، "المظلومية الإنسانية الكبرى" التي تهز ضمير العالم.
منذ ساعات الصباح الأولى، تدفقت الجموع الغفيرة من كُـلّ حدب وصوب إلى ميدان السبعين في العاصمة صنعاء ومختلف الميادين في شتى المحافظات اليمنية؛ رجال وشباب، وشيوخ وأطفال يحملون الأعلام الفلسطينية واليمنية، وشعارات التنديد بالتجويع والعدوان والحصار والإبادة الجماعية، كلها كانت تعكس وحدة الصف وصدق الانتماء لقضية الأُمَّــة المركزية.
لم تكن هذه المليونيات مُجَـرّد تظاهرات عابرة، بل كانت رسالة مدوية من قلب اليمن الصامد، مفادها أن غزة ليست وحدها؛ إنها صرخة شعبيّة تجسد الإرادَة الحرة والرفض المطلق للجرائم التي تُرتكب بحق الإنسانية في القطاع المحاصر؛ كُـلّ صوت في هذه الحشود الهادرة كان يعبر عن غضب مكبوت وحرقة على ما يجري، وعن تصميم لا يلين على الاستمرار في دعم صمود الشعب الفلسطيني.
لقد بدت ميادين اليمن وكأنها احتضنت الأُمَّــة بأكملها، حَيثُ علت هتافات التنديد بالصمت الدولي والتواطؤ، والمطالبة بوقف فوري للعدوان، وفتح المعابر، وإنهاء الحصار؛ كانت الأعلام ترفرف عاليًا، واللافتات تتحدث بوضوح عن إبادة جماعية وعن تدنيس المقدَّسات، مؤكّـدة أن الشعب اليمني لن يقف مكتوف الأيدي أمام هذه الجرائم.
هذه المليونيات ليست مُجَـرّد حدث عابر في تاريخ الاحتجاجات، بل هي تأكيد على أن القضية الفلسطينية كانت ولا تزال وستبقى حيَّة في وجدان الشعب اليمني، وأنها وقود للمقاومة والصمود. إنها صرخة ضمير حي من أرض اليمن الطيبة، تذكر العالم بأن الإنسانية تستصرخ في غزة، وأن التهاون في وجه الإبادة هو مشاركة في الجريمة.
إنها ترجمة حية لروح التضحية التي زرعها اليمن عبر تاريخه النضالي، وتعبيرٌ لا ينضب عن الالتزام الذي لا يتبدل مهما تكالبت المؤامرات وعظمت التحديات التي تواجهها اليمن وشعبها الشجاع.
الحضور اليمني لا يقتصر على الساحات الشعبيّة وحدها؛ منذ بدء العدوان، والقوات المسلحة اليمنية نفذت مئات العمليات العسكرية النوعية ضد سفن العدوّ الصهيوني ومن يتعامل معه وضد أسطول الاحتلال الأميركي في البحر الأحمر وباب المندب وخليج عدن، ومُستمرّة بذلك، في تحَرّكات مدروسة تهدف لشلّ حركة العدوّ، وربط أمنه بمصير غزة.
وما يميز هذه المرحلة هو التصعيد النوعي نحو العمق الصهيوني، حَيثُ أوقفت الصواريخ والمسيّرات اليمنية ميناء إيلات (أم الرشراش) الاستراتيجي عن تمامًا، فيما استمر استهداف مطار اللد (بن غوريون) بشكل متواصل ومتنامٍ منذ إعلان اليمن فرض حصار جوي فعلي على الكيان الصهيوني، ومؤخّرًا مطارات وموانئ أُخرى للعدو منها مطار رامون وميناء حيفا.
هذا الحصار الجوي الميداني غير المسبوق عطّل الملاحة الجوية في مطارات العدوّ الحيوية، وحوّل سماء فلسطين المحتلّة إلى مجال خطر يتهدّد سلامة الطيران، مؤكّـدًا أن اليمن قد فرض معادلة ردع جوية قاسية تقول: "لن تحلّق طائراتكم بسلام ما دامت غزة تُقتل قصفًا وتجويعًا".
هذه المعادلة الجديدة تعكس حجم الإرادَة اليمنية التي لم تكتفي بالدعم اللفظي، بل تحوّلت إلى فاعل مباشر في ميدان الصراع، يسطّر مواقف تتحدى الكيان وترسم أفق المقاومة المستقبلية.
في مقابل هذا الوضوح والإصرار، يبرز التناقض المرير مع مواقف معظم الأنظمة التي اختارت الصمت أَو التحالف مع العدوّ، حتى صارت غزة تُقصف بينما بعض العواصم تفتح أبوابها لتطبيع العلاقات، وكأن الأرض لم تتحَرّك.
لكن اليمن، بكل ما تحمل من تبعات الحرب والحصار، وبكل ما يعانيه شعبها من أزمات داخلية، يؤكّـد اليوم أن الكرامة لا تُباع، وأن الحق لا يساوم، وأن النضال لا ينحني.
هذه المليونيات ليست مُجَـرّد احتجاجات، بل هي إعلان جديد بأن اليمن في قلب المعركة، وبأن صمود غزة هو صمود لكل الأُمَّــة، وأن الشعوب التي ترفض الظلم ستظل ترفع راية المقاومة، حتى تحرير الأرض وإنهاء الاحتلال.
لقد صرخ اليمن، نيابة عن أُمَّـة متعبة، وقال بصوت مدوٍ:
"حين تصرخ غزة، لا يحق لأحد أن يصمت".