كانت الدبابة تتحَرّك ببطء، بثقة الحديد، في حيٍّ لم يبقَ فيه من البيوت سوى أطلالٌ مثقوبة. تطحن الأرض تحتها، وتبثّ الرعب في ما تبقّى من صدى الحياة. كان العدوّ يظنّ أن لا شيء يتحَرّك هناك سوى الغبار… وأنه بات يملك السيطرة على كُـلّ شبر من المكان.

لكن تحت ركام الغارة التي سبقت استهدافها في غزة، وفي بقعةٍ لا يزال يتصاعد منها الغبار وأثار الدم لم تجف بعد… نهض رجل.

لم تكن قيامته درامية، لم يفتح عينَيه على بطء، لم يتأكّـد إن كان في صحة تمكّنه من المهمة… لكن جسده أطاع عزيمتَه. قام، وهو مجروح ومغبرّ، يتنفس من خلال الألم، ويجرّ قدميه نحو وحش من الحديد الفولاذي الذي كان يخترق الأزقة.

كان يعلم أن في الداخل جنودًا يحتسون النصر الزائف، وأن أعينهم داخل الدبابة لا ترى سواه كأنهم في مسرحية هزيلة. ولم يكن يحمل إلا قنبلة يدوية، وبعضًا من غضب شعب عمره مئة عام.

تسلق كما لو أن كُـلّ دمعة في غزة تدفعه، وكل شهيد يهمس له: "أكمِل المهمة.. نحن معك".

وفي لحظةٍ لا يمكن وصفها إلا بالأُسطورية، ألقى قنبلته، ثم اختفى الصوت.

لكن الارتجاج لم يكن فقط في هيكل الدبابة، بل في قلب كيان العدوّ كلّه.

ذلك المشهد، البسيط، كان أكبر من قنبلة، وأعمق من عملية. لقد كان رسالة: أن الموت – حين يسكن قلب المجاهد – يصبح حياةً للأُمَّـة، ورعبًا دائمًا للعدو.

 

الإرادَة حين تتحول إلى سلاح

ما فعله ذلك المجاهد لم يكن تدريبًا في معسكر، ولا تكتيكًا ميدانيًّا. كان نتاج إيمان لا يُقهر، وعقيدة لا تلين. كان تجسيدًا لمعنى أن الضغط لا يولّد الاستسلام، بل الانفجار. وأن غزة، التي تُسحق من الجوّ والبرّ، تُنبت من تحت أنقاضها أبطالا لا يتردّدون في اقتحام الموت بقنبلة يدويّة، وابتسامة.

العدوّ الذي بنى دباباته من الحديد، وحصّنها بأحدث التقنيات، لم يدرك أن القنبلة الأخطر هي ذلك الإنسان الذي لا يُقهر من الغارات، ولا يُروض بالجوع، ولا يُكسر بالخوف.

 

رجالٌ صُنِعوا في الجحيم… ليكسروا العرش الصهيوني

التحرير لا يأتي عبر المؤتمرات، ولا عبر الاستغاثات. إنه يُصنع هناك، في الأزقة، في حضائر الدبابات، في ظلال الطائرات المسيرة، وتحت أقدام الغزاة. وإن كانت فلسطين قد وُعدت بأنها ستُحرّر، فإن رجالها يصنعون الوعد بأيديهم، لا ينتظرونه من أحد.

في كُـلّ مشهدٍ كهذا، يتكشف مستقبل الكيان: ليس فقط في الدمار الذي أحدثته القنبلة، بل في الرعب الذي زرعه صاحبها في عقول الجنود الصهاينة، وفي يقين الشعب بأنهم مهما حاصروا غزة، فإنها تُنبت مقاومين كما تُنبت الأرض الزرع بعد المطر.

هكذا يخترق الموت حصون العدو… لا من السماء، بل من قلب المجاهد الذي خرج من تحت الركام، ليقول للتاريخ:

"نحن لا نموت… نحن نُنفّذ المهمة".

رجال لا تُهزِمُهم الغارات… بل يصنعون من الموت طريقًا إلى النصر.