في منعطف حادٍّ من عدوان وإجرامِ العدوّ الصهيوني ضد الأُمَّــةِ، وعقبَ أشهر من القصف الوحشي والحصار الخانق على غزة، خرجت صنعاء، لا لتندّدَ كما يفعل الآخرون، بل لتُعلن رسميًّا بدء المرحلة الرابعة من الحصار البحري، في بيانٍ عسكريٍّ هو الأقوى منذ انخراط اليمن في معادلة الردع البحري.

لقد حمل البيان الصادر عن القوات المسلحة اليمنية في 27 يوليو 2025م دلالات لا تُخفى، ولغة لا تقبل التأويل: أي شركة تتعامل مع موانئ العدوّ، وبغض النظر عن جنسيتها أَو موقعها، ستُستهدف. بهذا الوضوح، رسمت صنعاء خطوط المواجهة الجديدة، مؤكّـدة أنها تخوض حربًا أخلاقية، لا تقبل التساهل ولا تعرف التراجع.

ما أقدمت عليه صنعاء ليس انفعالًا عاطفيًّا أمام مشاهد المجازر فقط، بل هو قرار استراتيجي تصاعدي، بُني على ثلاث ركائز متينة:

الركيزة الأخلاقية والإنسانية، حَيثُ تُقتل غزة خنقًا وجوعًا ودمًا، في صمت دولي مهين، وانبطاح عربي مريب.

والركيزة التكاملية، حَيثُ ترى صنعاء أن دورها لا ينفصل عن دور المقاومة في غزة ولبنان والعراق وإيران، وكلهم في خندق واحد.

أما الركيزة الثالثة، فهي الركيزة العملياتية، فاليمن بات يمتلك من الإمْكَانات ما يُمكّنه من توجيه الضربات في أعالي البحار والمحيطات، وبما يشل حركة السفن المرتبطة بالكيان.

هذه المرحلة تختلف عن سابقاتها في نقاط جوهرية؛ لم تعد مقتصرة على البحر الأحمر أَو خليج عدن، بل قد تطال كُـلّ مكان تصل إليه صواريخ اليمن ومسيراته.

ولم تعد تستهدف السفن "الإسرائيلية" أَو المتجهة مباشرة إلى موانئ الكيان فقط، بل كُـلّ سفينة تتبع شركة تتعامل تجاريًّا مع العدوّ، بغض النظر عن وجهتها.

وهذا يمثل رسالة تحذير نهائية للمجتمع الدولي، أن العالم إذَا أراد استمرار أمن التجارة العالمية، فليضغط على الكيان لوقف جرائمه. بمعنى آخر، اليمن يفتح مرحلة الردع الشامل المفتوح، ويربط أمن التجارة العالمية بدماء الأطفال في غزة.

قرارٌ بهذا الحجم لا يصدر إلا من مركَز قيادة يملك من الثقة والتجهيز ما يوازي شجاعةَ القرار. فصنعاء لم تصل إلى هذه المرحلة إلا بعد أن وسّعت منظومتها الاستخباراتية البحرية عبر مسيّرات الاستطلاع بعيدة المدى، وكونت بنك أهداف تجاري دقيق عبر تحليل بيانات الشحن البحري العالمي، ومعرفة الشركات المرتبطة بالموانئ الصهيونية. كما أجرت محاكاة لردود الأفعال الدولية والإقليمية، ووضعت سيناريوهات بديلة للاستمرار في التصعيد. ويضاف إلى ذلك أنها جهّزت رأيًا عامًّا صُلبًا داخل اليمن يجعل من هذه المواجهة قضية مصير لا تقبل المساومة.

دخول هذه المرحلة حيّز التنفيذ يعني ببساطة أن كُـلّ سفينة مرتبطة بالعدوّ باتت تمشي في البحر على جمرٍ مشتعل. فمنذ اليوم، ستعاني الشركات من ارتفاع تكاليف التأمين البحري بشكل مهول، وانسحاب شركات كبرى من خطوط الإمدَاد الصهيونية خشية الاستهداف، وارتباك في قطاع الصادرات والواردات، خُصُوصًا مع تزايد العزلة البحرية، وزيادة اعتماد الكيان على طرق لوجستية برية أَو جوية أكثر كلفة وأقل فعالية.

ولذلك فَــإنَّ الحصار البحري اليمني لا يقطع البحر فقط، بل يقطع شرايين الاقتصاد الصهيوني، ويزرع الرعب في كُـلّ مرفأٍ يتعامل مع موانئه.

وقد يتساءل البعض عن توقيت هذا التصعيد، والجواب واضح: لأَنَّ غزة تحتضر تحت ركام الصمت والخِذلان؛ ولأن الاحتلال ماضٍ في إبادة منهجية غير مسبوقة؛ ولأن المجتمع الدولي يثبت يومًا بعد آخر أنه جزء من الجريمة، ولأن الشعوب لن تصمت، واليمن آثر أن يتقدّم الصفوف. فالمعركة لم تعد معركة حدود، بل معركة كرامة الأُمَّــة كلها، واليمن اليوم يقول للعالم: من أراد سلامة تجارته، فليوقف ذبح أهلنا في غزة.

ما تفعله صنعاء ليس فقط دعمًا لغزة، بل هو إعادة تشكيل للردع العربي المفقود، وتثبيت معادلة تقول: لا ميناء آمن للعدو، ما دام طفلٌ يُقتل، أَو أم تُبتر، أَو حيّ يُقصف. وما لم تُوقف المجازر في فلسطين، فَــإنَّ الحصار البحري اليمني قد يتوسّع ليصبح حصارًا استراتيجيًّا لكل من يدعم العدوّ أَو يتواطأ معه. فهذه ليست حربًا؛ مِن أجلِ غزة فحسب، بل حرب؛ مِن أجلِ شرف الأُمَّــة كلها، ولأول مرة منذ عقود، إنها اليمن، أول دولة عربية تخوض حربًا بحريةً مباشرةً ضد الكيان الصهيوني، وتكسر حاجز الصمت، وتُربك العالم بحزمها وجرأتها.