في عالمٍ باتت فيه الشاشة منبرًا، والكلمة سلاحًا، وتُدار فيه المعارك على جبهة الوعي، لا يُعد مصطلح "الرقص على الجراح" مُجَـرّد توصيفٍ لظاهرة إعلامية، بل هو مدخل لفك شفرة بنية معرفية وسياسية قائمة على التضليل.
ظاهرة ليست سلوكًا عابرًا، بل استراتيجية ممنهجة تُمارس فيها الهيمنة، وتُعاد فيها صياغة الوعي الجمعي في ظل الأزمات الكبرى. وتحليل هذا المفهوم يتجاوز الرؤية الإخبارية السطحية، ليغوص في أعماقه التي تستند إلى آليات التنافر المعرفي واستراتيجيات التخدير، والتي تُخالف جوهر الإيمان الذي جاء في قوله تعالى: "وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا".
إنَّ قنوات كـ "العربية" لم تعُد مُجَـرّد وسائل لنقل الخبر، بل تحوَّلت إلى أدواتٍ فاعلةٍ في هندسة الوعي، وتشكيل الرأي العام بما يخدم أجندات أصحابها، حتى لو كان ذلك على حساب دماء الأبرياء.
إنَّ العنوانَ بحد ذاته يُمثِّلُ تناقُضًا سيميائيًّا حادًّا، حَيثُ يجمعُ بين "الرقص" كرمز للحياة والترفيه، و"الجراح" كرمز للألم والموت. هذا الجمع الصادم ليس من قبيل المصادفة، بل هو تكتيك إعلامي مُحكم يهدف إلى إبطال مفعول الشعور الإنساني بالتعاطف، وتطبيع اللاإنسانية.
عندما تُبث قنوات مثل "العربية" برامج الترفيه الصاخبة في أوج العدوان على غزة، فَــإنَّ ذلك يُخلق حالة من التنافر المعرفي لدى المتلقي؛ مِمَّــا يُجبر عقلُه على فصل الواقع الأليم عن واقعه الترفيهي. وبهذا، يتحول الدم إلى مُجَـرّد خلفية ثابتة لا تُؤثر في السرد الإعلامي، وتتحول المأساة إلى مشهد بصري يُستهلك ثم يُنسى. وكأن هؤلاء القوم قد أصابهم من العمى ما وصفه القرآن الكريم في قوله: "لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولئك كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئك هُمُ الْغَافِلُونَ".
إنَّ هذا التناقض الصارخ لا يخدم سوى مشروع التخدير الذي يُراد للأُمَّـة أن تستسلم له.
من منظور فلسفة الهيمنة، لا يُعد الإعلامُ المطبِّع مُجَـرّدَ وسيلة لنقل الخبر، بل هو أدَاة مركزية في عملية صناعة "الوعي الزائف".
يعمل على تثبيت وتكريس الأجندات السياسية التي تخدم القوى الكبرى وحلفاءها في المنطقة.
إعلام، بأقسامه المختلفة، يُشرعن العدوان على أنه "دفاع عن النفس"، ويُبرّر الحصار على أنه "إجراء ضروري"، ويُصوّر المقاومة على أنها "إرهاب".
قناة "العربية" تمثل نموذجًا للهيمنة المباشرة، حَيثُ تُقدم الرواية السياسية بوضوح وصراحة خدمةً لمموليها، وتتجاهل أي سردية مخالفة. إن وظيفتهما الأَسَاسية هي إقناع الجمهور بقبول هذه الروايات كحقائق ثابتة؛ مِمَّــا يُنتج في النهاية "مواطنًا مُستسلمًا" يرى أن دوره يقتصر على الاستهلاك لا على المقاومة. وهذا ما حذّر منه القرآن الكريم في قوله: "وَإِنْ تُطِعْ أكثر مَنْ فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ"، ليؤكّـد أن اتباع أكثرية مضللة يؤدي حتمًا إلى الضلال عن سبيل الحق.
إنَّ ما يمارسه هذا الإعلامُ لا يقلُّ خطورةً عن مفهوم "السياسة المَوْتِية"، حَيثُ يمتلك القدرة على تحديد من يستحقُّ الحياة ومن يستحق الموتَ في عيون المتلقي.
إعلامٌ يغدو شريكًا في هذه الجريمة، فهو لا يكتفي بالصمت على الدم، بل يُساهم في تبريره عبر لغة التجريد والتزييف. وهذا السلوك يتناقض بشكل مباشر مع قدسية النفس الإنسانية التي أكّـد عليها القرآن الكريم في قوله: "مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَو فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا". فقنوات مثل "العربية" تعمل على تبرير وترسيخ أن الكيان الصهيوني الغاصب هو كيان له "حق الدفاع عن النفس"؛ مِمَّــا يمنحه شرعية زائفة. إنها تقدم المجازر على أنها رد فعل على "استفزاز" أَو "هجوم" من قبل المقاومة؛ مِمَّــا يقلب الحقائق ويجعل الضحية جانيًا، وهو ما يُعد من أبشع أشكال التضليل.
ختامًا، إن الإعلام المطبِّع ليس مُجَـرّد مرآة تعكس الواقع، بل هو سلاح فتاك يُشكل الواقع ويُدير الصراعات من وراء الكواليس. إنَّ "الرقص على الجراح" ليس عنوانًا شعريًّا، بل هو توصيف دقيق لوظيفة هذا الإعلام في تفكيك الوعي، وتطبيع الخيانة، وإدارة الموت.
ومواجهة هذه الآلة الإعلامية تتطلب أكثر من مُجَـرّد إدانة، بل تتطلَّبُ بناءَ وعي جمعي قادر على تفكيك هذه الآليات، وإقامة منظومة إعلامية مُقاومة تُعيد الكلمة إلى منبعها الأصيل: الحقيقة.
وفي نهاية المطاف، فَــإنَّ النصر سيكون للحق، كما وعد الله تعالى: "وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ، وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ".