تكلَّفت القوى الاستعماريةُ الغربية وتصنَّعت كَثيرًا خلال العقودِ الماضية؛ لإخفاء قبحها وهمجيتها ووحشيتها، حين حاولت التلبُّسَ بلِباس حقوق الإنسان؛ فتدخلت تحت هذا العنوان في شؤون الدول، وأثارت الصراعات والنزاعات المسلحة لإشغال الدول والشعوب بنزاعات داخلية، كان ضحاياها بالملايين من شعوب تلك الدول، وفي ذات الوقت تتفرغ القوى الاستعمارية الإجرامية لنهب موارد الشعوب وثرواتها.

وخلال الحقبة الاستعمارية للقوى الغربية خلال القرن الماضي وما قبله، اقترفت هذه القوى الإجرامية إبادات جماعية بحق الشعوب التي احتلتها بشكل مباشر، وخُصُوصًا الشعوب العربية والإسلامية. وقد تضاعف إجرام القوى الاستعمارية الغربية بالتوازي مع تطور ما تنتجه مصانعها العسكرية من آلة الموت والدمار، ولا تزال شواهد جرائمها باقية في الواقع ومحفورة في الأذهان حتى اليوم.

ومع التطور الهائل في وسائل الاتصال والتواصل، الذي أَدَّى إلى انكشاف الأقنعة القذرة للقوى الاستعمارية الغربية، وانفضاح زيفها وتضليلها، لم تجد هذه القوى حرجًا في أن تجعلَ من الهمجية والوحشية سلوكًا إنسانيًّا، وتعملَ جاهدةً على إقناع الآخرين بأن سلوكها الوحشي الهمجي أمرٌ اعتياديٌّ يجبُ على الجميع تقبُّلُه والرضا به.

ولم يقف إجرام القوى الاستعمارية الغربية عند حَــدّ أنسنة التوحش وجعله سلوكًا إنسانيًّا عاديًّا ومقبولًا، بل إن هذه القوى الإجرامية قد فاقت في وحشيتها وحشية الغاب؛ فكم من المشاهدات في مقاطع متعددة لوحوش مفترسة تتوقف غريزتها الافتراسية وعدوانيتها إذَا ما ظفرت بمولود صغير لا يفرّق بين أمه والوحش المفترس، فتتحول الغريزة العدوانية وشهوة الافتراس إلى رعاية وحماية لذلك الحيوان الصغير الذي لاذت أمه بالفرار فور ولادته.

هذه الغريزة الفطرية، إنسانية الأصل، التي تميزت بها الوحوش المفترسة، افتقدتها القوى الاستعمارية الإجرامية الغربية، التي لم تُقم أي اعتبار للطفولة في غزة، والتي شملتها أفعال جريمة الإبادة الجماعية، ليس بشكل عرضي، ولكن بشكل متعمّد.

ومع أن القوى الاستعمارية الإجرامية الغربية لم يسبق لها أن انكشفت وتعرَّت بهذا المستوى العلني والواضح والمباشر، إلا أنها تعمّدت مع ذلك، ودون حياء أَو خجل، إنكارَ قُبح جرائمها.

وقد استمع الجميع لتصريحاتِ ترامب، مجرم الإدارة الأمريكية، التي أنكر فيها تجويعَ سكان قطاع غزة، بوصفه فعلًا من أفعال جريمة الإبادة الجماعية، وهو بذلك ينكر جريمة الإبادة ذاتها بحق سكان القطاع. كما سبق لسلفه المجرم بايدن إنكارها، ومسلك بقية مجرمي الإدارة الأمريكية لا يختلف عن مسلك هذين المجرمين، وهو ذاته مسلكُ القوى الاستعمارية الغربية الأُخرى الشريكة في جريمة الإبادة الجماعية.

ولا يجد المجرم ترامب حرجًا حين تحاصره أسئلةُ الصحفيين عن حالة الأطفال في قطاع غزة، في القول إنه يشعر بالقلق من سرقة حماس للمساعدات الإنسانية، ورغم أن تساؤلات الصحفيين كانت عن حالة المجاعة التي تعرض لها الأطفال في القطاع؛ بسَببِ الإسناد المتواصل من جانب الإدارة الأمريكية لـ (إسرائيل)، فَــإنَّه، مع ذلك، وبكل وقاحة وبجاحة، يُحمّل حماس المسؤولية، دون أن يحسب لفضيحته أي حساب. فالأطفال في غزة احتياجاتهم معروفة، لا يمكن لحماس الاستفادة منها بأي حال من الأحوال، فكيف يُستساغ القول بتحميلها مسؤولية سرقتها؟!

وإذا ما قارنا بين الإنسانية الفطرية لدى ذلك الحيوان المفترس الذي أشرنا إليه آنفًا، والذي قدّم الرعاية والحماية للحيوان الرضيع حديث الولادة رغم حاجته الطبيعية إلى سدّ جوعه، وبين وحشية ترامب وغيره من حكام القوى الاستعمارية الإجرامية الغربية، فالمجرم ترامب أشاد بكفاءة المجرم نتنياهو وقدرته على افتراس أطفال غزة، متجاوزًا حالة الوحشية المنسوبة للغابة!

والحقيقة أن همجية ووحشية القوى الاستعمارية الغربية ليست طارئة، ولم تُنشئها ظروف أَو وقائع مستجدة، بل إنها ثقافة متأصلة؛ فدور الظروف والعوامل والوقائع المستجدة يقتصر على الكشف عن تلك الهمجية والوحشية. فقد كان من أهم وسائل التسلية قديمًا لدى الغرب ما يُقام من عروض في مسرح (الكولوسيوم)، أبطال تلك العروض حيوانات مفترسة وضحاياها أسرى، وكانت تجتمع لمشاهدة مناظر الافتراس البشعة مختلف فئات المجتمع، وبمختلف الأعمار والأجناس.

ولم تتغيَّرِ الثقافةُ الغربيةُ الإجرامية، ولم يتغيَّرِ المِزاجُ الإجرامي الغربي، بفعل التطورات المتلاحقة في أوجه الحياة المختلفة، بل إن الحاصل توظيف كُـلّ تلك التطورات لخدمة الثقافة الإجرامية. وما لم تُواجَه القوى الاستعمارية الغربية بما يردعها ويوقفها عند حدّها، فَــإنَّ الشعوب العربية والإسلامية ستكون مسارح كبرى للتسلية، ولن يكون ما حدث ويحدث في غزة إلا نموذجًا مصغرًا لعروض ستُقيمها قوى الإجرام الغربية في هذه الشعوب، وستكون هي الفريسة، وما تنتجه مصانع آلة الحرب لدى هذه القوى من أسلحة فتاكة، هي الوحوش المفترسة التي ستمزّق أبناء الشعوب العربية والإسلامية إلى أشلاء، أسوأ مما كانت تفعل وحوش المسارح في عروض التسلية.