أن يضعَك العدوُّ بين خيارَينِ لا ثالث لهما، سلوكٌ إجراميّ دأب عليه المجرمون والطغاة عبر التاريخ، مهما اختلفت عناوينهم ومسمياتهم وأزمنتهم وأمكنتهم؛ فالعدوّ لا يترك أي متنفس لخيارٍ وسط، فيه مساحة للسلام والأمن والاستقرار، ولا حتى المتبادل، ولا يقابل أية جهود ومساعٍ ونوايا حسنة بخيار بين الخيارَينِ؛ فخياراتُه دائمًا بين السِّلة والذلة، والكرماء الشرفاء الأخيار لا يقبلون الذلة، ولا يساومون أبدًا، وأشباه الرجال يقبلون فورًا بالذلة والعبودية والخنوع والاستسلام.
يردّد التاريخ، ومعه الزمن، هُتافَ الأسلاف الأباة الأحرار: «هيهاتَ منّا الذلة» بكل شموخ واعتزاز، وتعزفه أيقونة الحرية والسيادة والاستقلال نشيدًا لا يقبل التنازلات والانبطاح، وتترجمه خلفهم قبضاتُهم وصيحاتُهم ودماؤهم وتضحياتهم وانتصاراتهم التي تعلو ولا يُعلَى عليها شيء أبدًا، وفي مقدمتهم أُمَّةُ «حزب الله» الأسياد، فخر الزمان، وعزّ الحاضر، وتاج الحرية.
من المعلوم أن الاتكاءَ على الدولة اللبنانية والتلطِّيَ خلفَها لحماية الوطن والشعب لا يُجدِي نفعًا؛ فما بالُك بحكومة جاءت من الخارج في مهمة مفضوحة لتجريد لبنان من كرامته وحريته وسيادته واستقلاله، وسلبه مجده وعزه ونصره وتضحياته؟!
حزبُ الله والمقاومةُ الإسلامية اللبنانية، الذين قدّموا عشراتِ آلاف الشهداء والجرحى، وجمهورها الكريم العابر للطوائف والمذاهب والأحزاب والجماعات والعابر للبنان والمنطقة برمتها، لن يسمحوا أبدًا بتمرير قرار نزع السلاح المقاوم، وتسليم لبنان وأرضه وشعبه للعدو الإسرائيلي وأدواته؛ لأَنَّ ذلك يعني تسليمَ ما بقي من كرامة للعرب والمسلمين والمجاهدين والمقاومين والأحرار.
لذا يجبُ عدمُ التهادُنِ في مواجهة هذه القرارات العدوانية، حتى لا تتطوَّرَ الأمورُ لتحرّكات مباغتة ومفاجئة بالانتشار الأمني المعادي في مناطق المقاومة، والتطور أكثر لمداهمتها على حين غِرة؛ فقرار الزج بالجيش اللبناني والقوى الأمنية في مواجهة المقاومة وجمهورها جدي وعاجل، والدفع للسير بلبنان في ركاب التطبيع أكثر عجلة وجدية.
صحيحٌ أن الجيش اللبناني ضعيف، لا يستطيعُ الوقوفَ أمام الاحتلال الإسرائيلي، ولا حمايةَ بلده وشعبه، لكن إذا ما حُرِّك الجيشُ والأمنُ في مواجهة الداخل اللبناني وضربِ بعض طوائفه ومكوّناته، فسيتنمّر ويتوحَّش، ويحظى بكل الدعم والإسناد، وسيغدو بطلًا شُجاعًا مقدامًا مغوارًا، وستعزفُ له أناشيدُ التمجيد والتبجيل من الرياض حتى واشنطن، ويصفّق له ويطبل، ويهلّل ويكبّر، ويُدعَى له في كل المنابر بما فيها منابر الحرمين الشريفين، وسيُنعَتُ حينها بكل صفات الجِهاد والمقاومة والتحرير والوطنية والعروبة؛ فينبغي التنبُّهُ من الاطمئنان لهذا المبرّر والواقع المعهود؛ فالمعادلاتُ والوقائعُ تتغيَّرُ سريعًا، وتحمل مفاجآت كبيرة.
كذلك إذا لم يُحرَّك الشارعُ ويُسبَق إليه، فستموت الديمقراطية والحرية، وتُحظَر التظاهُرات، وتُمنَعُ التجمعات السلمية وتُجرَّم، وتُقام الحواجز في كل مكان، أو في أحسن الأحوال سيسبق أدوات الخارج لتحريكه في الاتجاه المعاكس، لإبراز موقف شعبي داعم للقرار وضاغط في تنفيذه، ولإظهاره كـ"مطلب وطني شعبي" يقف الشعب خلفه ويصطف حوله، وليس مطلبًا خارجيًا، ولا إملاءات مفروضة من أحد.
بكل تأكيد، هناك جمهورٌ كبيرٌ للمقاومة في كُلِّ المكونات والطوائف، يرفض هذا القرار جملة وتفصيلًا، ويأبى التفريط بالسيادة والكرامة، والانبطاح والتبعية، والتعبير الشعبي بالرفض المطلق للقرار وصانعيه، سيهز أركان الداخل والخارج المتواطئ والعميل، ويسقط القرار وكل المتساوقين معه داخليًا وخارجيًا.
لا نحبذ ترك الحبل على الغارب، بما يوحي ويفيد أن هناك شبهَ فوضى وتفلُّتٍ في البنية التنظيمية، بل يجبُ الحفاظُ على هذا الجمهور القوي المقاوم، حتى لا يشعُرَ بالاستضعاف والخِذلان والهوان، ويصاب باليأس والإحباط.
إن آمالَ وأطماعَ العدوّ كبيرة، وأهدافَه خطيرة؛ فهو إن لم ينجح في تنفيذ هذه القرارات سريعًا ومباشرة، سيسعى لتحقيق أهدافها ومفاعيلها في إشعال فتيل الحرب والفتنة الداخلية والأهلية في لبنان، وضرب الدولة والجيش والطوائف والمكونات بعضها ببعض، بما يفضي لتحقيق هذه الغايات والأهداف القذرة مستقبلًا.
صحيح أن الوضع السياسي اللبناني مختلف عن غيره من البلدان العربية؛ فهو معقّد ومتشابك ومحكوم بالتوافق، لكن ينبغي عدم التعويل على شيء من ذلك أبدًا؛ فـ التوجّه قائم على قدم وساق لتجاوز كل التوافقات والمواثيق والاتفاقيات والمرجعيات، وسيتم القفز على اتفاق الطائف، والدستور، والتوافق، والشراكة، ما لم يكن هناك قوةٌ رادعة توقف هذا التهور السريع.
والأكثرُ صحةً — وهو ما ينبغي تيقُّنُه والتعامُلُ معه بجدية — أن وراءَ قرار نزع السلاح جُهدًا وإرادةً وعملًا منظمًا ومخططًا، وأنه مطروحٌ للتنفيذ، وأنه ليس كلامًا في الهواء ولا حبرًا على ورق، وأن قرار دفع الجيش وقوى الأمن وجماعات أُخرى لنزع سلاح المقاومة والاشتباك معها جدي وحاسم؛ لذا ينبغي التنبه الجاد، والعمل الدؤوب، والتحرّك العاجل، لتفادي ما لا يمكن تفاديه فيما بعدُ بأكبر الخسائر والتضحيات.
* باحث في الشؤون الدينية