منذ انطلاق العدوان على اليمن عام 2015، لم يكن القصف الجوي وتدمير البنى التحتية سوى وجه واحد من وجوه الحرب. فالعدو لم يكتفِ بتدمير الموانئ والمصانع والجسور أمام أعين العالم، بل سعى إلى شن حرب اقتصادية ناعمة لا تقل خطورة عن القنابل والصواريخ. هذه الحرب تستهدف عصب حياة اليمنيين، وتعمل بخطوات متدرجة على إنهاك الاقتصاد الوطني وتجفيف موارده.
الحرب الاقتصادية الناعمة تدار بأدوات معقدة، أبرزها العقوبات الأمريكية التي تُفوض عبر وزارة الخزانة لتطال الشركات الوطنية والبنوك والمؤسسات الاقتصادية. الهدف المعلن هو الضغط، والحقيقة أنه محاولة لإضعاف الاقتصاد الوطني وتحويل الشعب إلى رهينة بيد الحصار والعقوبات. وأحد أبرز الأمثلة على هذه الحرب الاقتصادية الناعمة تتجسد في الشركة الوطنية للتبغ والكبريت “كمران”، التي واجهت سلسلة من العقوبات والمخططات، وهي واحدة من أكبر المؤسسات الاقتصادية التي شكلت لعقود رافداً مهماً للاقتصاد اليمني.
قصة “كمران” مع الحرب الناعمة طويلة. بدأت بمحاولات مشبوهة لتهريب أموال الشركة إلى الأردن، حيث تم افتتاح مصنع للسجائر في عمّان بتكلفة وصلت إلى 27 مليون دولار. هذه الخطوة لم تكن مجرد استثمار خارجي، بل كانت عملية ممنهجة لإفراغ الشركة من قوتها المالية وإضعاف موقعها داخل السوق اليمنية. هنا تلاقت مصالح العدو الخارجي مع أدوات الداخل، وتحديداً أجنحة نافذة من بقايا النظام السابق، الذين تعاملوا مع الشركة كملكية خاصة يعبثون بها لتحقيق مصالحهم.
المرتزقة المرتبطون بمصالح شخصية داخل “كمران” سعوا إلى هدفين رئيسيين. الأول: السيطرة على أصول الشركة ونهب عوائدها. الثاني: فتح السوق اليمنية أمام السجائر المهرّبة القادمة من الإمارات، وهي منتجات مقلدة لا تراعي الجودة أو المصلحة الوطنية. ومن أبرز المرتبطين بهذا الملف الرئيس الأسبق لمجلس إدارة الشركة، الذي حرّك عبر نفوذه وزير الإعلام في حكومة الفنادق معمر الإرياني لمهاجمة الشركة والتحريض عليها في أكثر من مناسبة. كما ساهم بعض الناشطين والمؤثرين، بقصد أو بدون قصد، في تعزيز حملة التحريض على الشركة، مما أساء إلى سمعة منشأة اقتصادية وطنية يتربص بها العدو سراً وجهراً.
إلى جانب ذلك، واجهت الشركة عقبات أخرى مفتعلة على صعيد النقل البحري. فقد امتنعت شركات الملاحة عن نقل حاويات المواد الخام الخاصة بالشركة من جيبوتي، حيث بقيت الحاويات عالقة لعدة أشهر رغم الطرق المتكرر لكل الأبواب. لم يكن ذلك ليحدث لولا توجيهات صريحة من التحالف بعدم السماح بإدخال هذه المواد، في محاولة متعمدة لوقف الإنتاج وشل حركة المصنع. وحتى عندما نجحت سفينة أخيراً في دخول ميناء الحديدة الأسبوع الماضي، قيل إن هناك أوامر مباشرة بعدم السماح بإفراغ حاويات “كمران”.
هذه العراقيل انعكست بشكل مباشر على السوق المحلية. فقد أدى عدم توفر المواد الخام لنوعي السجائر “الأزرق والأبيض” إلى شحة ملحوظة خلال الأسابيع الأخيرة. الكميات المحدودة التي توزعها الشركة تباع بسعرها الرسمي، لكن السوق السوداء استغلت الوضع لرفع الأسعار، ما أرهق المستهلك وأثار حالة من الفوضى في الأسواق. الهدف من كل ذلك واضح: إضعاف الثقة بمنتجات الشركة الوطنية، ودفعها تدريجياً نحو الإفلاس، حتى يخلو السوق أمام المنتجات الإماراتية المهرّبة.
ذروة هذه المؤامرة جاءت مع إعلان وزارة الخزانة الأمريكية إدراج “كمران” ورئيس مجلس إدارتها ضمن قائمة العقوبات، إلى جانب عدد من المستثمرين والشركات الوطنية الأخرى. المثير أن القائمة شملت أسماء شخصيات وطنية لا علاقة لها بالاستثمار أو الاقتصاد، ما يكشف أن الهدف ليس محاربة التمويل كما يزعمون، بل فرض مزيد من القيود على الاقتصاد اليمني وعرقلة أي تحركات دبلوماسية أو سياسية يمكن أن تفتح نافذة نحو السلام.
في ظل هذه الضغوط المتعددة، بات من الضروري التفكير خارج الصندوق والبحث عن حلول وطنية مبتكرة لتأمين المواد الخام محليًا، بدل الاعتماد الكلي على الاستيراد الذي يسيطر عليه العدو ويحوّل السوق إلى أداة ضغط. يمكن تصور خطة استراتيجية لتطوير زراعة التبغ محلياً، واستغلال الموارد المعدنية والزراعية المتوفرة في اليمن لتصنيع المواد المرافقة لصناعة السجائر، بحيث تصبح الشركة الوطنية كمران نموذجاً للصناعة اليمنية المستقلة.
الدول التي واجهت عقوبات مماثلة، مثل كوبا وإيران وفنزويلا، اعتمدت سياسات مشابهة لتجاوز الحصار: تطوير بدائل محلية، وتحويل الصناعات الاستراتيجية إلى منظومة إنتاج مكتفية ذاتيًا. اليمن يمكنه السير على نهج مشابه، عبر تعزيز البحث العلمي والتعاون مع الجامعات ومراكز البحوث، وتشجيع المستثمرين المحليين على دعم الصناعة الوطنية، مع التركيز على تقنيات حديثة لتقليل الاعتماد على المستوردات.
مثل هذه الاستراتيجيات لا توفر المواد الخام فحسب، بل تعزز الأمن الاقتصادي وتقلص قدرة العدو على الاستفراد بالقرار الوطني، وتحوّل التحديات إلى فرصة لتعزيز السيادة الاقتصادية والصناعية. في الوقت نفسه، فإن نجاح هذا النهج سيشكل رسالة واضحة للعدو بأن الشعب اليمني قادر على حماية مؤسساته الوطنية مهما حاول فرض القيود أو شن الحروب الناعمة.
ما يجري اليوم هو نموذج مكشوف للتخادم بين العدو الخارجي وأدواته في الداخل. العدو يضغط بالعقوبات والحصار، وأدواته المحلية تكمل المهمة بالتحريض والفساد ونهب الأصول، في مشهد يعكس كيف تتقاطع مصالح الخارج مع أطماع الداخل على حساب معاناة ملايين اليمنيين.
لكن هذه الحرب الناعمة، مهما اشتدت، لن تنجح في تحقيق أهدافها. فكما فشلت الصواريخ والطائرات في كسر إرادة الشعب، ستفشل العقوبات في إسقاط الاقتصاد الوطني بالكامل. الوعي الشعبي بما يجري، والتمسك بالمؤسسات الوطنية، والقدرة على فضح هذه المؤامرات أمام الرأي العام، كلها عوامل كفيلة بتحويل الحرب الاقتصادية إلى معركة صمود جديدة يثبت فيها اليمنيون أنهم عصيون على الانكسار. كما تبقى الفرص متاحة لتعزيز الصناعة الوطنية وتطوير حلول محلية لتجاوز الحصار، ما يحوّل التحديات إلى فرص حقيقية لتعزيز السيادة الاقتصادية.