لا خلافَ بين كُـلّ اليمنيين الواعين - على اختلاف انتماءاتهم - على أن النظام السعوديّ، منذ اللحظات الأولى لانطلاق شرارة الثورة في السادس والعشرين من سبتمبر، تعامل مع هذه الثورة الوليدة ليس كحليف لدعم طموحات الشعب اليمني، بل كفرصة ذهبية للسيطرة وتوجيه المسار بما يضمن إفراغ الثورة من مضمونها التحرّري الحقيقي.

لقد اغتال النظام السعوديّ روح الثورة قبل أن يغتال رموزها وقادتها الواحد تلو الآخر. فما كان منه إلا أن أحكم قبضته على مفاصل القرار في صنعاء الناشئة، محولًا الثورة من مشروع تحرّري وطني إلى مُجَـرّد أدَاة طيعة في يد المملكة، تُدار منها وتوجّـه لمصالحها الضيقة.

كان الهدف المعلن للثورة هو إقامة جمهورية مستقلة تحقّق الكرامة والعدالة، لكن النظام السعوديّ عمل على تأجيل هذا الحلم إلى ما لا نهاية، ووظّف كُـلّ إمْكَانياته لضمان ألا تبلغ الجمهورية الفتية سن الرشد، وألا تتحول إلى كيان سياسي مستقل قادر على اتِّخاذ قراره بنفسه.

وحول النظام السعوديّ اليمن - عبر أدواته داخل النظام الجمهوري نفسه - إلى ساحة مفتوحة لنفوذه وللتيارات الدينية والسياسية التي تخدم أجندته. فكان أن فتح الباب على مصراعيه للتيار الوهَّـابي والتيار الإخواني، ليس بدافع الإيمان بحرية الرأي، بل لتقسيم المجتمع اليمني وإشغاله في صراعات هُوياتية تبعده عن جوهر الصراع الحقيقي: تحقيق الاستقلال الوطني.

ولم تكن أجهزة المخابرات الإقليمية والدولية بعيدة عن هذه المعمعة. فقد وجدت في هذا الفضاء المسيطر عليه من قبل الرياض ساحة خصبة لزراعة عملائها وتوسيع شبكات نفوذها. وكانت "اللجنة الخَاصَّة" السعوديّة هي الأدَاة الأكثر فاعلية في تنفيذ هذا المخطّط، حَيثُ تولّت مهمة تجنيد الشخصيات اليمنية - من سياسيين وعسكريين وقبليين - وتحويلهم إلى مرتزِقة فعليين، يتبادلون الولاء مقابل راتب شهري يضمن خضوعهم التام. فاختار الكثيرون بين الخيانة للوطن أَو الفقر والإقصاء، فكانت الخيانة هي الخيار الأسهل في دولة لم يعد فيها قرار لصانع القرار اليمني نفسه.

وهكذا، تحولت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر - بفعل هذا التدخل الممنهج - إلى نقيض نفسها، فأدخلت اليمن تحت وصاية سعوديّة خانقة بدلًا من أن تحرّره منها. وأصبحت الدولة الهشة الناتجة عنها مُجَـرّد غطاء لاستمرار الهيمنة، بل وتعميقها.

وخِلال أكثر من ستين عامًا، لم تشهد اليمن أي تقدم حقيقي، بل سارت من سيء إلى أسوأ في كُـلّ المجالات: من التعليم إلى الصحة، إلى الاقتصاد، إلى البنية التحتية، بينما كانت ثروات البلاد تُنهب لصالح تحالفات الفساد التي رعاها النظام السعوديّ وعمل على حمايتها.

وعندما انطلقت شرارة الأمل الجديدة مع ثورة فبراير 2011م، التي خرج فيها الشعب يطالب بالتغيير الحقيقي والحرية والكرامة، كان النظام السعوديّ حاضرًا مرة أُخرى ليفشل هذه المحاولة ويقضي عليها في مهدها. فلم يرق له أن تتحول اليمن إلى دولة ديمقراطية حقيقية يختار شعبها قادته بحرية.

فكانت الاتّفاقيات المُسيَّرة من الرياض - وعلى رأسها "اتّفاقية الرياض" - التي فرضت وصاية جديدة وأدوات أكثر تخلّفًا، هي القشة التي قصمت ظهر البعير.؛ إذ أدخلت البلاد في نفق مظلم من الفوضى والانهيارات الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية غير المسبوقة، وكادت الأمور تخرج عن السيطرة تمامًا، لتدفع باليمن إلى حافة الهاوية.

وفي هذا المناخ الموبوء بالتبعية والانهيار، كانت الحاجة ملحة إلى ثورة شعبيّة أُخرى تخرج البلاد من عنق الزجاجة، ثورة تستخلص دروس الماضي كله. فجاءت ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر 2014م، التي تميزت بقيادة وطنية جديدة نابعة من صلب الشعب، لا علاقة لها بصراعات السلطة القديمة أَو بأدوات المعارضة التقليدية التي أنهكها الفشل والتبعية.

هذه القيادة الثورية المخلصة استطاعت - بحكمة وإرادَة فولاذية - أن تتجنب الأخطاء والتجاوزات التي وقعت فيها كُـلّ ثورات الربيع العربي. فجعلت من ثورة سبتمبر 2014 ثورة نظيفة، نقية، طاهرة، لم ترفع سلاحًا إلا في وجه العدوان، ولم تسع للثأر أَو الانتقام، بل سعت لتحرير الإرادَة اليمنية واستعادة القرار الوطني.

وقدّمت هذه الثورة نموذجًا فريدًا في المنطقة: نموذجًا للصمود والاعتماد على الذات في مواجهة أعتى تحالف دولي وإقليمي.

وفي فترة قياسية، حقّقت ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر ما عجزت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عن تحقيقه خلال عقود طويلة: فاستعادت اليمن كدولة ذات سيادة حقيقية، وباتت تمتلك جيشًا وطنيًّا موحّدًا من أقوى الجيوش في المنطقة، يعتمد على عقيدة قتالية راسخة قوامها الإيمان بالله ثم بالوطن. وأصبح القرار يمنيًّا خالصًا في كُـلّ الملفات - من الداخل إلى الإقليم - ولم يعد هناك من يفرّط بالثروات أَو يوقّع على اتّفاقيات الإذعان تحت طاولة في الرياض.

وهذا الإنجاز التاريخي هو بالضبط ما جعل أعداء اليمن - في الداخل من بقايا العملاء والمنتفعين من نظام الوصاية، وأسيادهم في الخارج من دول تحالف العدوان بقيادة النظام السعوديّ وسيدهم الأمريكي والإسرائيلي - يتكالبون عليها بشراسة، ويوجهون كُـلّ أبواقهم الإعلامية والسياسية للنيل منها، محاولين تشويه صورتها وخلق حالة من الخلاف والقطيعة المصطنعة بينها وبين ثورة السادس والعشرين من سبتمبر.

وكأنهم يريدون أن يمحوا من ذاكرة اليمنيين أن ثورة الحادي والعشرين من سبتمبر هي الابن الشرعي والوريث الحقيقي لثورة السادس والعشرين من سبتمبر، بل هي تصحيح لمسارها واستكمال لأهدافها التي خانها النظام السعوديّ وأعوانه.

إن محاولات الفصل بين الثورتين هي جزء من الحرب على اليمن. فثورة سبتمبر الكبرى هي واحدة، تجسدت في 1962 وتجسدت من جديد في 2014، لتحقيق الحلم ذاته: تحرير اليمن وإقامة دولته المستقلة ذات السيادة الكاملة.