ما الذي يحتاجه المغرَّرُ بهم، والمندفعون بلا وعي، والمُدجَّنون، وأصحاب القصور الذهني، من أدلّةٍ ماديةٍ ووقائعَ عمليةٍ إضافية، ليدركوا أن من يسمّونهم "قادتهم" ليسوا سوى أوراق رخيصة وأدوات رخوةٍ مستهلكة في يد العدوّ الأمريكي والإسرائيلي والبريطاني، وبأذرعه السعوديّة والإماراتية؛ فحين تتحوّل قيادتُكم إلى دُمى، ويغدو الوطن ساحةَ اختبار للمحتلّ؛ فأيُّ دليلٍ أوضحَ من مشهد اليوم المفتوح على اتساع الجغرافيا تريدون؟
خيانةٌ بلا أقنعة، عمالةٌ بلا خجل، خِسّةٌ بلا حدود، وضَعةٌ أخلاقية وانحدارٌ سياسي يجسِّدُه حَفنةٌ من حثالة السياسة، وما نجعته الأرض، من جراثيم المزابل التي لفظها التاريخ والجغرافيا؛ ممن ارتضوا لأنفسِهم أن يكونوا واجهاتٍ محليةً لمشاريعَ خارجية، ويمضون بلا قرار ولا كرامة ولا سيادة، تحَرِّكُهم القوى المعاديةَ متى شاءت، وتعيد ترتيب أدوارهم حيثما شاءت، ثم تلقي بهم جانبًا متى انتهت صلاحيتُهم.
لم تعد خيانتُهم وعمالتُهم حدثًا عابرًا أَو تسريبًا سريًّا تتداوله وسائل الإعلام التي تصنفونها بالمغرِضة، وإنّما باتت سلوكًا يوميًّا معلَنًا، يُبثّ على الهواء مباشرةً، ويُمارس باسم أدوات السعودية وأتباع الإمارات، ولم يعد لأحدٍ كائنًا من كان أن يقف حائرًا أَو متردّدًا؛ فما نشاهده لم يعد فكرةً نظرية، وإنّما واقعٌ يلامس الناس في كُـلّ المناطق التي يسيطرون عليها، في معيشتهم، ويلاحقهم في أعمالهم، ويقتسم معهم تفاصيل حياتهم، حتى بات ينام معهم على سريرٍ واحد ولا يفارقهم في أحلامهم.
ما يفعله تحالف العدوان والاحتلال اليوم، بمساعدةِ الخونة والعملاء من بني جِلدتنا، ليس عشوائيًّا ولا ارتجاليًّا، إنه يضرِبُ في العمق، في الهُـوية الإيمانية والوطنية الجامعة؛ باعتبَارها خَطَّ الدفاع الأول للشعوب، عبر تعزيز الهُـويات الفرعية والانتماءات الثانوية: مناطقية، جِهوية، مذهبية، سياسية مصطنعة، ويُرِيدُ لليمن أن يكونَ مجتمعاتٍ ممزَّقةً، يسهل قيادُها، وتُدَارُ بالخِلاف بدل القرار، وبالصراع بدلًا عن السيادة، وبالخضوع والارتهان بدلًا عن العزة والكرامة.
الخطوة التالية في المشروع الاستعماري الجديد هي إنشاءُ كيانات تابعة، دويلات صغيرة، أقاليم متنافسة، وسلطات متناحرة، تعتمد كليًّا على المحتلّ في المال والإعلام والسياسة والأمن وحتى في التواصل بين أجزائها؛ ليس الهدف حَـلّ ما يسمونها "الأزمة"، وإنّما ترسيخُ سياسة ممنهجة تهدف إلى كسر الإرادَة الجمعية، وتحويل الشعب من كتلة موحدة قادرة على المواجهة، إلى جماعات متناحرة تستهلك طاقتها في صراعات داخلية تقوض قدراتها حتى على استيعاب الواقع.
ما نشاهده اليوم، هو في حقيقتِه غطاءٌ سياسي لاحتلال متعدد الوجوه، يسعى إلى تعميقِ التجزئة وربط الأجزاء بالمحتلّ لا بالوطن، وتحويل الاحتلال من حالة مؤقَّتة إلى واقعٍ دائمٍ مُقنَّن، يؤدي إلى استنزاف الطاقات والثروات؛ ويعملون على توجيه البُوصلة على غيرِ اتّجاهها نحو العدوّ الحقيقي.
ما يحدُثُ في اليمن اليوم ليس خلافًا سياسيًّا داخليًّا، ولا صراعًا لطرفَي الاحتلال السعودي الإماراتي على تقسيم الكعكة اليمنية، إنه مشروعُ احتلال متكامِل تقوده قوى الاستكبار العالمية: أمريكا وبريطانيا وكيان الاحتلال الصهيوني، بأدوات إقليمية سعوديّة إماراتية؛ فما يجري في المحافظات الجنوبية والشرقية المحتلة، ليس إلا تكريسًا للاحتلال بصبغة محلية، ومحاولة مفضوحة لفصل اليمن وتمزيقه والسيطرة على موقعه الجغرافي الحاكم للممرات الدولية، ونهب ثرواته وموارده، لكنها محاولات محكومة بالفشل، وهيهات لهم ذلك.
أيها العقلاء: لم تعد المشكلةُ نقصَ أدلة ومعلومات أَو غياب براهين؛ فالشواهد أوضحُ من الشمس؛ بل المشكلةُ الحقيقية هي تعطيل الوعي، والتمسك بالوَهْمِ، والهرب من مواجهة الحقيقة، وفي عجز إرادَة عند من يصرّ على العمى؛ الوقائع صارت أوضح من أن تُفسَّر، وأقسى من أن تُنكر.
اليوم، يقف اليمنيون أمام معادلة واضحة: إمّا الاصطفاف مع الهُـوية والسيادة والاستقلال، أَو الارتهان لمشاريع الخارج.
نعم.. إمّا وعيٌ واصطفافٌ مع الوطن وقواه الحرة الصادقة في صنعاء، أَو سقوطٌ نهائي في مزابل التاريخ، حَيثُ ينتهي بكل من راهن على المحتلّ وخدم مشاريعَه وخان وطنَه وشرفَه.