موقع أنصار الله . تحليل | أنس القاضي 

 

شهدت الجبهة الداخلية للعدو -خلال الحرب الراهنة على إيران- تصدعاً غير مسبوق في منظومات الأمن والنظام الاجتماعي، والانسجام المؤسسي، حيث تسببت الهجمات الصاروخية الإيرانية في زعزعة معادلة "الأمن المطلق" للعدو.

عكست هذه الحرب تحوّلاً نوعياً في طبيعة الصراع، حيث أصبحت الجبهة الداخلية للعدو الصهيوني هدفاً مباشراً للحرب النفسية والاستنزاف المادي. وقد كشفت الحرب عن هشاشة النسيج "المجتمعي" والمؤسسي، وعمّقت فجوات الثقة بين "كيان الاحتلال كمؤسسات" ومختلف مكونات المستوطنين، وبالتالي فإن استمرار العمليات الإيرانية لا يهدد أمن "إسرائيل" من الناحية العسكرية فقط، بل ينذر بأزمة داخلية متعددة الأبعاد، تعيد صياغة العلاقة بين "المجتمع" و"الحكومة" وآلية صنع قرار الحرب، فلم يعد الكيان رعاية اجتماعية وامتيازات أمنية و(مؤسسة تتخذ قرار الحرب بالإجماع بناءً على المعطيات، فقد دخل البُعد الحزبي والشخصي لنتنياهو في الأمر، وهو يخاطر بالكيان)، أي أن الكيان اليوم  يتعرض للحرب والحصار وتشتعل النيران في جبهته الداخلية، ويختلف سياسيوه حول دعم الحرب من عدمها، ويستغلون ذلك انتخابياً. و"إسرائيل" من حيث طبيعتها غير مؤهلة للتعامل مع تحديات كهذه، ومع ذلك فهي تحاول التكيف مع هذا الوضع الجديد منذ السابع من أكتوبر 2023م.

كشفت الحرب عن مدى ضعف الجبهة الداخلية الإسرائيلية في مواجهة صراع مفتوح مع قوة إقليمية كإيران. فالمشكلة لم تعد عسكرية فقط، بل تحوّلت إلى أزمة "مجتمعية" ونفسية ومؤسسية تهدد استقرار الكيان من الداخل.

إن الوضع المتأزم للجبهة الداخلية الإسرائيلية يلعب دوراً مهماً في رسم حدود الفعل العسكري الإسرائيلي، فكلما ازدادت هشاشة الداخل، ضاقت خيارات المواجهة المباشرة، واتجه صانع القرار الصهيوني نحو التراجع والبحث  إما عن دعم أمريكي أطلسي مباشر لحسم المعركة في أسرع وقت، أو عن تسويات عبر الوسطاء الدوليين.

الحرب في الداخل!

تُعد الجبهة الداخلية  لكيان الاحتلال اليوم إحدى أبرز ساحات المواجهة غير التقليدية في الحرب الإيرانية–الإسرائيلية، فلأول مرة في تاريخ الصراع مع العدو يكون ميدان المواجهة  العمق المحتل، ويقف المغتصب الإسرائيلي  على تماس مباشر مع النيران.

 واليوم وضمن التحولات في أجيال الحرب،  لم تعد المعركة تقتصر على الأبعاد العسكرية المباشرة، بل امتدت لتطال البنية المجتمعية والنفسية والاقتصادية والسياسية داخل كيان الاحتلال. وقد أظهرت هذه الحرب مستوى غير مسبوق من التأثيرات المتفاعلة فيما بينها التي ستعيد صياغة مفهوم "الأمن الداخلي" في كيان الاحتلال.

التحول في الوعي الأمني والمجتمعي

أحدثت الهجمات الصاروخية الإيرانية-  في حربها الدفاعية- اختراقاً مباشراً لمجال الكيان الحيوي، إذ تم استهداف مناطق مركزية كـ"تل أبيب" وحيفا، الأمر الذي أدى إلى زعزعة الإحساس الجماعي بالأمان، والذي طالما كان مكوّناً جوهرياً في السردية الصهيونية وفق مفهوم "الأمن المطلق". وقد ساهمت تحذيرات الجبهة الداخلية الإسرائيلية في تقلص زمن الإنذار المسبق إلى أقل من 10 دقائق، في تعميق الشعور بالتهديد، وعززت مناخاً من الذعر الجماعي انعكس في موجات النزوح الداخلية والخارجية.

الإرباك المؤسسي وغياب التنسيق

كشفت التقارير الإعلامية العبرية عن خلل عميق في الجاهزية المؤسسية الصهيونية، تمثّل في تآكل اللجنة "الوزارية" المعنية بجهوزية الجبهة الداخلية منذ 7 أكتوبر، وعدم تفعيلها رغم تصاعد التهديدات. كما أظهرت قرارات متناقضة – كتخفيف تعليمات الطوارئ في بعض المناطق رغم تصعيد الهجمات – غياب انسجام في صنع القرار، الأمر الذي فاقم من حالة  عدم اليقين لدى المغتصبين.

الهروب والنزوح الجماعي

تشير الوقائع الميدانية إلى نزوح قرابة 3800 شخص من منازلهم داخل الأراضي المحتلة "إسرائيل"، إلى جانب تزايد ظاهرة الفرار باتجاه قبرص ومصر والأردن، في مشهد غير مسبوق. وقد وثّقت تقارير صحفية لجوء مئات الإسرائيليين إلى وسائل إجلاء بديلة عبر يخوت تجارية وخاصة، ما يعكس فقدان الثقة بقدرة مؤسسات  الاحتلال على ضمان سلامتهم، وتحول الجبهة الداخلية إلى ميدان للصراع.

التصدع والاستياء الاجتماعي

أثارت إجراءات حكومة  الكيان المتعلقة بتعويض المتضررين من القصف الإيراني موجة من السخط، خصوصاً بعد الإعلان عن تعويضات "رمزية" لا تتجاوز 150 دولاراً للفرد، في ظل تقديرات أولية تشير إلى أضرار مادية تتجاوز 8 مليارات "شيكل" خلال العام 2025م، وهذا الواقع فاقم من التوتر الاجتماعي، وساهم في تأجيج النقد الداخلي تجاه أداء "الحكومة".

العزلة الدبلوماسية

 

تجلّى البُعد الأمني- الدبلوماسي للأزمة في إجلاء عائلات دبلوماسيي عدد من الدول، مثل بريطانيا وروسيا والصين، وتعليق السفارة الأميركية في القدس عملها. وترافق ذلك مع دعوات عدة دول لرعاياها بمغادرة "إسرائيل"، ما أسهم في تآكل صورة "إسرائيل" كـ"واحة أمن" في محيط إقليمي مضطرب، وفضح ضعف الجبهة الداخلية أمام هجوم واسع النطاق، وأمام حرب تجري داخل الكيان المحتل ذاته، فلطالما كانت حروب الكيان اعتداء على الخارج بعيداً عن جبهته الداخلية.

تقييد الحريات والنشاط الإعلامي

على المستوى السياسي الداخلي برزت ممارسات قمعية تجاه فلسطينيي الداخل، عبر اعتقال من احتفلوا بالهجمات الإيرانية ومصادرة ممتلكاتهم، وهو ما يعكس تصاعداً في الخطاب اليهودي القمعي تجاه الأقليات العربية-المسيحية. كما قامت الشرطة الإسرائيلية بمصادرة معدات الصحفيين العرب، واحتجاز مقيمين بثوا مشاهد من الضربات، وأصدر "الكنيست" قراراً بمنع تصوير أماكن سقوط الصواريخ والمواقع الحساسة، ما يكشف عن انكماش في الحريات وميل متصاعد نحو الرقابة الأمنية الشاملة، خوفاً من كشف الإعلام والناشطين لحجم الدمار في الكيان، الصورة التي من شأن خروجها أن ينعكس  دولياً على وضع الكيان الحقيقي، وداخلياً على معنويات المستوطنين بما في ذلك العسكريون.

أثر هشاشة الجبهة الداخلية على المواجهة المباشرة

يشكّل وضع الجبهة الداخلية في "إسرائيل" متغيراً استراتيجياً ذا تأثير مهم على صياغة القرار السياسي والعسكري في سياق المواجهة مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية؛ فالمواجهة الحالية، بما تتسم به من انتقال الصراع إلى العمق المحتل، أعادت تعريف معادلات الردع والقدرة على الحسم، وربطت بشكل مباشر بين تماسك الجبهة الداخلية وحدود الفعل العسكري الخارجي.

أظهرت الأحداث الأخيرة أن الجبهة الداخلية للكيان لم تعد تحتفظ بقدرتها التقليدية على التحمل في ظل مؤشرات واضحة تمثلت في:

•           نزوح الآلاف من المغتصبين.

•           تصاعد الهجرة المؤقتة غير النظامية (التهريب).

•           حالة الخوف والقلق العام.

•           تدهور الثقة بـ"الإدارة الحكومية ومؤسسات الطوارئ".

وقد انعكست هذه التحولات في تراجع قدرة القيادة الإسرائيلية على اتخاذ قرار تصعيدي واسع، خوفاً من انفلات الوضع الداخلي وانهيار معنويات المستوطنين.

إن هشاشة الائتلافات الحاكمة في "إسرائيل"، وتذبذب المزاج المجتمعي، يفرضان على القيادة السياسية الصهيونية تحاشي الدخول في مغامرات عسكرية ذات كلفة مرتفعة داخلياً، لا سيما في ظل ضعف الجبهة المدنية.

ومع تصاعد الهجمات الصاروخية وتقديرات الأضرار التي تجاوزت 8 مليارات "شيكل"، بات من الواضح أن قرار المواجهة العسكرية لا يمكن فصله عن كلفته الاقتصادية والاجتماعية. وقد أثّرت ضعف التعويضات، وغياب الخطط الاستباقية لحكومة الاحتلال، على مستوى التماسك المجتمعي، ما جعل من خيار الحرب الشاملة خياراً محفوفاً بالمخاطر متعددة الأبعاد.

استهداف العمق كأداة ضغط استراتيجي

تعمدت إيران، في ردّها، استهداف الجبهة المدنية إلى جانب الأهداف العسكرية، ما شكّل نقلة نوعية في طبيعة المواجهة، وجعل القرار الإسرائيلي بتوسيع الحرب يخضع لتقييم دقيق للمردود مقابل الكلفة. فالهجمات على العمق الإسرائيلي لم تعد رمزية، بل أصبحت أداة استراتيجية لتقليص قدرة "إسرائيل" على اتخاذ قرار هجومي واسع.

إن الوضع المتأزم للجبهة الداخلية الإسرائيلية يلعب دوراً مهماً في رسم حدود الفعل العسكري الإسرائيلي، ويُعيد تعريف العلاقة بين الداخل والخارج في حسابات الأمن القومي الصهيوني. فكلما ازدادت هشاشة الداخل ضاقت خيارات المواجهة المباشرة، واتجه صانع القرار الصهيوني نحو التراجع والبحث  إما عن دعم أمريكي أطلسي مباشر لحسم المعركة في أسرع وقت، أو عن تسويات عبر الوسطاء الدوليين. بذلك، لم تعد الجبهة الداخلية مجرّد خلفية للصراع، بل تحوّلت إلى محدِّد مركزي لسقف القرار العسكري والاستراتيجي الإسرائيلي.