بيت حانون تقاتل كأنها كل غزة، "بيت حانون" تلك البلدة الواقعة في خاصرة الشمال، لم تنم منذ فجر الطوفان، تقاتل على مدار اللحظة وكأنها تحمل وحدها راية الثورة. واليوم، كتبت فصلاً جديدًا بالنار والكمائن والتكتيك المحكم.
في مشهد يعكس قمة الإبداع القتالي المقاوم، نصبت وحدات المقاومة كميناً نارياً مركباً في محيط بيت حانون، استُخدمت فيه عبوات ناسفة محكمة، وكمائن RPG، واستدراج تكتيكي لقوة إنقاذ إسرائيلية إلى قلب فخ متفجّر.
القتال يحتدم في بيت حانون، الاشتباكات التي تخوضها المقاومة الفلسطينية ضد قوات العدو الإسرائيلي لا تهدأ. 5 مجندين صهاينة لقوا حتفهم، وأكثر من 16 جريحا حسب اعتراف العدو.
في تفاصيل التحقيق الأولي في الحادثة فقد وقع الحدث في إطار عملية عسكرية مشتركة بين لواءين، ينفذها العدو الإسرائيلي في بيت حانون شمال قطاع غزة، وهي البلدة المقابلة لـ"سديروت"، والتي استُولي عليها مرارًا وتكرارًا خلال العدوان، ونفذ العدو الإسرائيلي عمليات عسكرية هناك مرات عديدة بقوات كبيرة. مساء السبت، بدأ هجوم آخر هناك، شنه لواءان للعدو – "اللواء الشمالي" و"اللواء الاحتياطي 646". وكان الهدف من العملية: مهاجمة المنطقة و"تطهيرها" من المقاومين، بعد أن كانت بيت حانون محاصرة من جميع الجهات.
بدأ الحادث بعد الساعة العاشرة مساء الاثنين، عندما عبرت قوة من "الكتيبة 97" "نيتسح يهودا"، أول كتيبة "حريدية" في "جيش" العدو الإسرائيلي، طريقًا سيرًا على الأقدام ضمن الهجوم. تم تفجير عبوتين ناسفتين على المحور، واحدة تلو الأخرى، على قوة المشاة. يقول "جيش" العدو الإسرائيلي إن هذه المنطقة تعرضت لهجمات جوية مكثفة في الأسابيع الأخيرة، كجزء من عمليات "التخفيف" الجوية استعدادًا للعملية. ومع ذلك، انفجرت العبوتان الناسفتان، هناك تمامًا عند مرور القوة. أثناء إخلاء المصابين من موقع العبوات الناسفة، أطلق المقاومون النار من كمين على قوات الإنقاذ. تكبدت قوات الإنقاذ خسائر إضافية، وأصبحت عملية الإخلاء معقدة وطويلة. تم إرسال قوات إنقاذ إضافية إلى موقع الحادث لإنقاذ جميع المصابين، فوقعوا في الكمين مجددا.
إن الحديث عن خبر دامٍ على قوات العدو بعد أكثر من 21 شهرا على الحرب الدموية التي يشنها العدو الإسرائيلي بدعم أمريكي ضد قطاع غزة، يعني فشل حرب الإبادة في كسر إرادة المقاومة لدى الشعب الفلسطيني، الذي يواجه ويتصدى بين ركام منازل المدينة التي دمرها العدو عبر غارات الطيران، وقذائف المدفعية، وتفجير الروبوتات المفخخة في الأحياء السكنية، إلا أنها لم تنجح في تدمير روح القتال والمقاومة في الإنسان الفلسطيني.
وقع خاص من الصدمة لكمائن بيت حانون على قيادة العدو الإسرائيلي واستخباراته، الذين أعلنوا أكثر من مرة عن هزيمة كتيبة بيت حانون، وفي كل مرة تعود بيت حانون لتسطر أروع ملاحم البطولة والثبات، ويعود العدو مضرجا بالدماء، مصطحبا ما تبقى من أشلاء مجنديه وركام آلياته.
يعكس الكمين تفوقًا استخباراتيًا ومهارة عالية في التمويه والتوقيت، ويشير إلى أن المقاومة ما زالت تُدير المعركة على أرضها بقواعدها، لا قواعد العدو. استخدام العبوات والـRPG بشكل متزامن، وتفجير روبوت هندسي قبل أن يُستخدم، يعكس اختراقًا للقراءة الميدانية الإسرائيلية، وتفوقًا في التقدير العملياتي.
من حيث مسرح العملية فإن بيت حانون، المقطوعة عن العالم منذ شهور، والتي أبيدت وأعلن العدو الإسرائيلي الانتهاء منها منذ الشهر الثالث للحرب، ومن حيث الأهداف المستهدفة، فقد انفجرت عبوة ناسفة في مدرعة. والقسام يعرفون جيدا المدرعات التي تحمل القادة أو المجندين، والفيديوهات السابقة تؤكد هذه الجزئية. كذلك تم تفجير روبوت جاهز للتفجير، فرصة سانحة لا يمكن أن تعوض، فحوله عشرات المجندين الصهاينة الذين ظنوا أنهم في أمان.
أما من حيث التوقيت فمع احتدام العملية التفاوضية بين المقاومة والعدو الإسرائيلي، وضرورة فرض عوامل قوة للمفاوض الذي يظن العدو أنه خالي الوفاض، ولا يملك الكثير من عناصر القوة. والأهم هو أن الإعلام الإسرائيلي تحدث هذا الأسبوع أن حماس باتت تدرس وتفهم جيدًا نمط عمل "الجيش" الإسرائيلي.
والخلاصة أن على العدو الإسرائيلي أن يخشى من أي عملية واسعة النطاق في قطاع غزة، ففي كل زاوية وزقاق سيجد الموت الزؤام.
وفي تعليق على كمين بيت حانون قالت "إذاعة الجيش" الإسرائيلي: “وفقًا لجميع كبار القادة في غزة، يُمثل خطر العبوات الناسفة التهديد الأكبر لقواتنا في القطاع”. وأوضحت أنه وفقا للمعطيات فإن أكثر من 70 بالمئة من الـ"إصابات" في صفوف القوات الإسرائيلية بغزة كانت بسبب العبوات الناسفة خلال الأشهر الأخيرة، مضيفة: “بلغ عدد القتلى بالعبوات 27 من أصل 38، وذلك منذ استئناف القتال في 18 مارس/ آذار الماضي”.
وذكرت أن العبوات الناسفة تتخذ شكلين: الأول كمائن على الطرق وتسببت بمقتل 19 صهيونيا، والثاني مبانٍ مفخخة وتسببت بمقتل 6 آخرين، وفق الإذاعة. وتابعت: “في الأسابيع الأخيرة، لاحظ الجيش جرأة متزايدة من جانب مسلحي حماس، فعلى عكس الماضي، لا يفرون أو يضعون العبوات الناسفة مُسبقًا ويُفعّلونها عن بُعد، بل يخرجون من بين الأنقاض، ويقاتلون، ويتركون الكمائن ويطلقون النار من داخلها، مع علمهم بأن هذا يزيد من خطر انكشافهم”.
وأكدت أن أبرز المعارك التي أسفرت عن سقوط قتلى من" الجيش" الإسرائيلي خلال الأسابيع الأخيرة اتسمت “بعدم فرار المسلحين من موقع الحادث بعده، بل بقوا فيه واستمروا في المواجهة، حتى مع قوات الإنقاذ، سعياً لتعزيز إنجازاتهم”.
وأشارت إلى أن المسلحين الفلسطينيين يعتمدون أيضا على التصوير الفوتوغرافي، الذي يُعَد “جزءا لا يتجزأ من المسألة”، وذلك من أجل “إنتاج صور عالية الجودة، من زوايا متعددة، للحادث، حتى تتمكن حماس من نشر الوثائق”، وفق ما نقلته الإذاعة.
مدينة بيت حانون لا تُقاس بمساحتها، بل بقلوب رجالها، ولا تُروى حكايتها إلا من رماد البيوت ووهج الدموع. وللتذكر عن حال المدينة: فهي مخلاةٌ من سكانها منذ شهور، من بقي من مجاهديها محاصر بلا ماء، بلا خبز، بلا دواء، ورغم كل هذا، ما زالت واقفة كالنخيل في عاصفةٍ لا ترحم.
بيت حانون لم تعد مجرد بلدة في شمال غزة، بل صارت رمزًا إلهيًا يُتلى في سجلات المجد، ومحرابًا علويًا ينزف الشهادة، وأيقونةً معلقة على جبين الأرض. ركامها لا يشكو، بل يُنشد: “هنا مرّ الأبطال، وهنا صعدوا”.
لُطف الله ظاهرٌ فيها كضوء الفجر بعد ليلٍ مديد، ورسائل السماء تترى .
من مقلاع التاريخ خرجت حجارة داوود، تحمل اليقين في قلبها، والعزة في قبضتها. ومن رماد الحروب الحديثة خرج المقاومون، أبناء الأرض، يحملون بندقية وحقًّا لا يُقهر. حجارة داوود لم تكن مجرد حجر، بل كانت وعدًا إلهيًا بزوال الطغيان، ونبوءة تتجدد في كل زمان.
اليوم، يعود المشهد: الدبابة تتقدم، والسماء تمطر نارًا، لكن هناك من يقف، عاري الصدر، ثابت القدم، يقذف بالحقّ وجه الباطل. في غزة في خانيونس، في جباليا، وحتى جنين، وفي كل شبر حرّ: حجارة داوود تُترجم إلى رصاص، وصيحة النصر تُولد من رحم الإبادة والجوع.
لا فرق بين المقلاع والبندقية، ما دامت اليد نفسها يد الإيمان، والقلب نفسه قلب لا يعرف الهزيمة، والعدو نفسه: ظالم أعمى ظن أن الحديد يحسم المعركة.
فليعلم الطغاة: من مقلاع التاريخ إلى بندقية الحاضر حجارة داوود ما زالت تكتب النصر، وما زال الطغيان يُهزم أمام أبطال لا يملكون إلا إرادتهم، لكنها إرادة لا تُهزم.
حركة المقاومة الإسلامية حماس علّقت على الكمين النوعي مؤكدة أن الحقائق الميدانية والسياسية، بعد مرور 640 يومًا من الحرب الاستئصالية التي يشنّها العدو الصهيوني على شعبنا، باتت جليّة للعالم أجمع، بأنّ الاحتلال قد فشل فشلًا ذريعًا في كسر إرادة غزة أو إخضاع مقاومتها.
وأضافت حماس أن شعارات “الهزيمة الساحقة” و”الاجتثاث الكامل” لحركة حماس، قد سقطت على أعتاب الأنفاق المتفجّرة، وكمائن المقاومة المركّبة، وتحطّم وهم “تحرير الأسرى بالقوة” تحت وقع الضربات المتلاحقة. وشددت على أن عربات “جدعون” احترقت في بيت حانون وخان يونس، ومَن فيها قُتلوا، فيما يواصل أسود المقاومةِ المواجهةَ بنديّةٍ وبسالةٍ رغم الجوع والحصار، بينما يرتكب الاحتلال المجازر بحقّ المدنيين والأبرياء.
صوت المقاومة أبو عبيدة أكد أن "عملية بيت حانون المركبة ضربةٌ إضافيةٌ سددها مجاهدونا الأشداء لهيبة جيش الاحتلال الهزيل، ووحداته الأكثر إجراماً في ميدانٍ ظنّه الاحتلال آمناً بعد أن لم يُبقِ فيه حجراً على حجر". وأضاف: "إن معركة الاستنزاف التي يخوضها مقاتلونا مع العدو، من شمال القطاع إلى جنوبه، ستكبّده كل يومٍ خسائر إضافية، ولئن نجح مؤخراً في تخليص جنوده من الجحيم بأعجوبة؛ فلربما يفشل في ذلك لاحقاً، ليصبح في قبضتنا أسرى إضافيون".
وشدد على أن "صمود الشعب الفلسطيني وبسالة مقاوميه الشجعان هما حصراً من يصنعان المعادلات ويرسمان معالم المرحلة القادمة، وإن القرار الأكثر غباءً الذي يمكن أن يتخذه نتنياهو سيكون الإبقاء على قواته داخل القطاع".
أن تكون المقاومة قادرة على تصعيد عملياتها وهي تفتتح الشهر الـ 22 من حرب عالمية عليها، تزامنًا مع المفاوضات، لزيادة الضغط العسكري على العدو، وإسنادًا لفريقها المفاوض، فهذا لم يعد من الممكن تفسيره ضمن المنطق والتحليل العسكري البحت، بل إن المقاومة وجناحها السياسي يحصد اليوم نتيجة الإعداد القرآني والتربوي، والتنشئة. فهذا الثبات لا يقاس بالعدة والعتاد، بل بالروح الجهادية. إن الحديث لم يعد عن حرب لعدة أشهر، فهذه الليلة فاتحة الشهر الـ22، والأسبوع الـ92، واليوم الـ640، و 15000 ساعة من حربٍ أحد طرفيها يتلقى الدعم من كل العالم، والآخر يُقطع عنه كل شيء وما زال يسدد اللكمات والضربات القاتلة والموجعة.
بيت حانون ليست فقط ساحة اشتباك، بل مختبر ثوري حيّ، لتكتيكات المقاومة الجديدة. هنا لا يتراجع المقاتلون، بل يُراكمون الخبرة، ويعيدون تعريف "الصدمة" في عقل العدو. بيت حانون اليوم، تمثل روح الطوفان، وتمتلك ذاكرة القتال منذ اللحظة الأولى. هنا لا ترفع رايات بيضاء، بل تُزرع الرايات الحمراء فوق الحطام، إشارة إلى أن المعركة لم تنتهِ، بل بدأت من جديد