موقع أنصار الله . تقرير
إن ما يتكشف اليوم في قطاع غزة هو فصل دام من تراجيديا إنسانية لم يشهد لها التاريخ مثيلا. إنها حكاية التجويع المسلح، والإبادة البطيئة، والخذلان المدوي الذي يمزق ضمير الإنسانية ويفضح عوار الأنظمة.
في هذه اللحظة الفارقة، وبينما عقارب الساعة لا تزال تدور في يومنا هذا، تتكشف فصول جديدة من المأساة الإنسانية في قطاع غزة المحاصر، لتلقي بظلالها القاتمة على ضمير عالم يراقب بصمت. أرقام تحكي شهادات دامية على وحشية لم يشهد لها التاريخ مثيلا، حيث تحول البحث عن لقمة العيش إلى رحلة نحو الموت المحقق.
وزارة الصحة في غزة أعلنت تسجيل 10 حالات وفاة جديدة بسبب المجاعة وسوء التغذية الناجمة عن الحصار وحرب الإبادة الجماعية التي تنفذها قوات العدو الإسرائيلي في قطاع غزة. مضيفة أن الحالات الجديدة سجلت في مستشفيات القطاع، وهو ما رفع العدد الإجمالي لوفيات المجاعة وسوء التغذية 111 حالة وفاة.
كما أكدت وصول 113 شهيدا، منهم 13 شهيدا انتشال و534 إصابة إلى مستشفيات قطاع غزة، خلال الـ24 ساعة الماضية، مضيفة أن ما وصل إلى المستشفيات خلال الـ 24 ساعة الماضية من شهداء المساعدات بلغ 34 شهيدا وأكثر من 644 إصابة، ليرتفع إجمالي شهداء لقمة العيش ممن وصلوا المستشفيات إلى 1,060 شهيدًا وأكثر من 7,207 إصابة.
وأوضحت أن حصيلة الشهداء والإصابات منذ 18 مارس 2025 حتى اليوم بلغت 8,363 شهيدًا و31,004 إصابات. كما ارتفعت حصيلة العدوان الإسرائيلي إلى 59,219 شهيدًا 143,045 إصابة منذ السابع من أكتوبر للعام 2023م.
أشباح الجوع على وجوه الأطفال والنساء والشيوخ في غزة، تتجلى بأبشع صور الجرم. إنها قنابل تمزق الأجساد تشرعن سياسة ممنهجة تحول الخبز إلى سم، والحليب إلى ذكرى بعيدة. بهذه الأنباء المؤلمة تطل علينا وزارة الصحة في غزة بين الفينة والأخرى معلنة عن استشهاد مئات الأرواح البريئة بسبب الجوع، جلهم أطفال. أرقام وإحصائيات تنعي أرواح تزهق ببطء قاس.
هناك، وأمام مشهد الطفلة رزان أبو زاهر، ذات الأربع سنوات، وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة على أرضية مستشفى منهار. لم تمت بسرعة، وإنما ماتت ببطء مؤلم، "أضلاعها الصغيرة ترتفع وتنخفض كأجنحة هشة لا يمكن رفعها. لم يتبق في جسدها أي دهون لتحرقها. غائرة عيناها. صوتها - الذي كان يوما همسا ضاحكا - اختفى منذ زمن طويل". ماتت تحت أنظار أمها التي توسلت إليها أن تصبر، وتحت أنظار طبيب لم يعد لديه حقن، ولا محلول ملحي، ولا كلمات، وعالم كان يتابعها ثم يتجاهلها. إن موتها لم يكن مأساة، بل كان حكما، "لم يكتب على عجل، بل كتب بسياسة".
إنها سياسة "الجوع المسلح"، كما يصفها الكتاب والمحللون وشهود عيان، "خنق متعمد لشعب، ليس بالحبال، وإنما ببيروقراطية الجرم الصهيوني". لقد قصفت المخابز، ودمرت المزارع، ومنعت قوافل المساعدات، في دقة متناهية تشبه دقة القتل ذاته. يؤكد برنامج الغذاء العالمي أن ثلث سكان القطاع لم يتمكنوا من تناول الطعام لأيام متتالية، بينما يعيش ربعهم في ظروف تشبه المجاعة. وفي شمال غزة، كان الأطفال يعيشون على متوسط 245 سعرة حرارية في اليوم، أي أقل من علبة فول. حالٌ فاق خيالات التوصيف بأبشع أنواع الحصار الذي لم تر البشرية مثيلا له، إنه "أول إبادة متلفزة في العالم"، ومعسكر اعتقال مفتوح على مدن وقرى وبلدات، تتعرض لهجوم جوي مستمر، وتجويع على الأرض مريع.
والأكثر وحشية، هو تحويل نقاط توزيع المساعدات إلى "مواقع للقتل والتجويع". في مشهد لا يصدق، "قُتل المئات من الفلسطينيين بالرصاص أثناء محاولتهم الحصول على المساعدة. منهم أطفال كانوا يحاولون الحصول على الطعام". لقد تم تصوير أب هزيل، يبكي وهو يحمل جسد ابنه الملطخ بالدماء، بعد إطلاق النار عليهم أثناء انتظاره للحصول على الدقيق. "لم يصرخ. كان يهز الصبي بين ذراعيه بينما كان إطلاق النار يتصاعد خلفه، وهو يهمس باسمه، لأن هذا كان كل ما تبقى له".
بينما تُزهق الأرواح في غزة، يقف العالم متفرجا، أو أسوأ من ذلك، متواطئا. الولايات المتحدة، التي تدّعي ريادة حقوق الإنسان، تدفع ثمن الأسلحة وتحمي هذا الجرم بحق النقض في مجلس الأمن. أما أوروبا، التي تتباهى بتنويرها وتُردد مقولة "لن يتكرر أبدا"، فإنها تصمت صمت القبور عندما تكون الجثث فلسطينية. لقد وجدت مرجعياتها الخاصة أن "إسرائيل" انتهكت اتفاقيات حقوق الإنسان، ولكن ماذا فعلت أوروبا؟ "لا شيء". لقد كان "الاتفاق الإنساني" المزعوم مع "إسرائيل" مجرد "ستار دخاني - لفتة كانت تهدف فقط إلى تضليل الرأي العام، ولكسب الوقت بينما كان الأطفال يتضورون جوعا".
وكما أعلنت منظمة العفو الدولية: "إنها خيانة قاسية وغير قانونية للقانون والضمير وأوروبا نفسها". سيُذكر هذا - "ليس كسياسة، بل كمشاركة. ليس كحياد، بل كشراكة في الجريمة". يتحول الخبز إلى ورقة مساومة، والدبلوماسية إلى شريك في جرائم الحرب. "ما هو نوع العالم الذي يجعل طعام الأطفال الجائعين موضوعا للنقاش؟" تتساءل الكاتبة سمية الغنوشي، وتُجيب بمرارة: "غزة ليست مجرد ساحة قتل. إنها مرآة، وفي انعكاسها نرى عارنا المطلق غير المزخرف".
ولم تكتمل فصول هذه التراجيديا إلا بتخاذل الأقربين، أولئك الذين يتحدثون عن الأخوة والدم المشترك، لكنهم أصبحوا "حراسا وسجانين ومنفذين". الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يُغلق معبر رفح، الشريان الوحيد لغزة، ويسمح لشاحنات المساعدات أن "تفسد تحت أشعة الشمس"، ويمنع الأطباء من الدخول. "الأطفال يموتون - ليس لنقص المساعدة، بل بسبب منعها". وفي الأردن، تُعتقل الأصوات الحرة، وتُسحق فلسطين، ويتحول التضامن إلى جريمة، والخضوع إلى فضيلة. إنها قواعد الدكتاتور: "طاعة الغرب، واستيعاب "إسرائيل". ثم أغلق شعبك، وافعل ما تريد". هؤلاء ليسوا متفرجين، "إنهم شركاء في المجاعة، وفي الحصار، وفي المذابح".
إن الجوع في غزة لا يهدف إلى القتل الجسدي فحسب، بل إلى سحق القدرة على التفكير والتنظيم والأمل. حتى الصحفيون، الذين يُفترض بهم أن يكونوا شهودا على الحقيقة، يُعانون الجوع، "ننقل لكم الأخبار ونحن جائعون. لم نجد لقمة نأكلها منذ أمس". عندما يصبح المراقب هو الضحية، عندما يبتلع الجوع الراوي، يكون التاريخ قد تجاوز الأزمة - لقد وصل إلى الكارثة.
إن أهل غزة لا يُجوعون فحسب، بل يُجرّدون من آخر ما تبقى لهم: كرامتهم. "يُعاملون معاملة أسوأ من الحيوانات. يُطاردون عندما يتجمعون، ويُقتلون عندما يأكلون". لأن العدو لا يكتفي بسحق أجساد الفلسطينيين، بل "يريد سحق أرواحهم. محو ليس فقط وجودهم، بل إرادتهم في الوجود".
في خضم هذه الظلمة الحالكة، يبرز نور الصمود والمقاومة. ففي اليمن، يقف الشعب اليمني، ممثلا بقواته المسلحة، سدا منيعا في وجه العدوان، ويُقدم دعمًا ثابتا لغزة وفلسطين، في رسالة واضحة بأن الصلة بين الفظائع الماضية والمقاومة الحالية لا يمكن إنكارها. وفي غزة ذاتها، يُعلن محمود بصل، المتحدث باسم الدفاع المدني الفلسطيني، إضرابه عن الطعام احتجاجا على المجاعة الكارثية، في فعل رمزي يجسد صمود الشعب الفلسطيني الذي لا يلين.
إن غزة اليوم ساحة معركة، وهي سجن ومقبرة، ومرآة تعكس عار العالم المطلق. لا يوجد أي مبرر على الإطلاق للتجويع القسري والقتل العشوائي للفلسطينيين في غزة. وفكرة أن آليات وقفه غير متوفرة أو غير موجودة هي كذبة من أقصى حد. يجب هزيمة هذه الوحشية، بأي ثمن، ويجب أن نتذكر كل شيء، بتفاصيله الدقيقة، لمحاسبة المسؤولين عنها. ففي كل طفل يموت جوعا، وفي كل صرخة أم، تكمن قوة وعمق المنعة، وآهتنا التي ستهز ضمير العالم يوما ما. وهذا اليوم هو الآن.