موقع أنصار الله . تحليل | أنس القاضي
لم يكن المشروع الصهيوني يوماً سوى احتلال استيطاني وحشي يستند إلى التهجير والتطهير العرقي، ويمارس وجوده على أنقاض شعب يسعى للبقاء في أرضه والتمسك بهويته.
في قلب هذا الصراع، تُمثّل المقاومة الفلسطينية – بجميع أشكالها – التعبير الأرقى عن الحق في الدفاع عن الذات والوجود، في مواجهة منظومة استعمارية مدعومة من القوى الإمبريالية الغربية، تسعى إلى فرض الهيمنة عبر أدوات عسكرية، واقتصادية، وإنسانية.
ومن بين أكثر أدوات الحرب فتكاً ورمزية في هذه المواجهة، تبرز سياسة التجويع التي يتبناها الصهاينة في قطاع غزة، كنهج استراتيجي يهدف إلى إخضاع المجتمع الفلسطيني أو دفعه نحو النزوح والهجرة.
إن ما يجري في غزة اليوم ليس فقط جريمة حرب موصوفة بموجب القانون الدولي، بل أيضاً استكمال لمخطط تاريخي هدفه إعادة إنتاج النكبة بأدوات جديدة: التجويع بدل المجازر، والعزل بدل الاجتياح، والإبادة البطيئة بدل التهجير القسري المباشر.
وبينما تتصدى المقاومة الفلسطينية لهذه الهجمة بكل الوسائل المتاحة، فإن الواجب الأخلاقي والسياسي على الشعوب الحرة والقوى الدولية المحبة للسلام، مساءلة المعتدي، وفضح النفاق الغربي، ودعم صمود الشعب الفلسطيني في نضاله التحرري العادل.
إن تجويع الأطفال، ومنع الدواء، وقطع المياه، ليست سوى تعبير عن فشل المشروع الصهيوني في فرض نفسه كـ"دولة طبيعية"، فهو لا يستطيع أن يبقى إلا على حساب وجود الإنسان الفلسطيني وحقه في الحياة والحرية.
تعكس الوقائع المتواترة خلال الشهور الماضية، والتي تفاقمت بشكل كبير في الأيام الماضية، تحولَ التجويع من أداة ضغط إلى سلاح رئيسي في الترسانة العدوانية "الإسرائيلية". يتجلى هذا الأمر في قطع الإمدادات الغذائية والمائية والدوائية بشكل كلي منذ مارس 2025م، بما في ذلك إغلاق كافة المعابر، ومنع دخول الوقود اللازم لتشغيل محطات المياه والمستشفيات ومحطات الكهرباء.
وقد اقترن هذا الحصار والقتل البطيئ، بتكثيف استهداف المدنيين أثناء سعيهم للحصول على المساعدات، ما أدى إلى مئات الشهداء وآلاف الإصابات، الأمر الذي يكشف عن منهجية متعمدة في جعل الغذاء نفسه مصيدة، يواجه فيه الجائعون الرصاص بدلاً عن الخبز.
وقد وُظّفت هذه السياسة ضمن ما سمّي بعملية "عربات جدعون"، التي تعطي المجرم نتنياهو خيارين: إما اجتياح كامل للقطاع، أو السيطرة على 90% من مساحته وعزل غزة المدينة ومخيماتها في مربع أمني محاصر، مع فرض إجراءات أمنية لفصل المدنيين عن المقاومة.
في هذا السياق، أُعيد طرح مشروع ما سمي بـ"المدينة الإنسانية"، الذي يهدف إلى تجميع النازحين في منطقة تخضع لرقابة إسرائيلية تامة، وتتحول فيها المساعدات الغذائية إلى أداة فرز وترويض وضبط اجتماعي، فمن خلال هذا النموذج، يسعى الكيان إلى تأسيس منظومة سيطرة شاملة على سكان غزة، لا عبر الاحتلال العسكري المباشر فحسب، بل من خلال التحكم في شروط بقاء الفلسطينيين على قيد الحياة.
تشكّل سياسة التجويع، التي تمارسها "إسرائيل" بحق سكان غزة، انتهاكاً فاضحاً لمجموعة من القواعد القانونية الدولية، التي تُعدّ من صلب القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان، والتي يرمي بها العدو عرض الحائط.
إذ تحظر اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949م بشكل صريح استخدام التجويع كسلاح ضد المدنيين، وتُلزم القوة المحتلة بضمان توفير المواد الأساسية لحياة السكان الخاضعين للاحتلال، كما يؤكد البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977 على الحظر القاطع لاستخدام الجوع كسلاح في النزاعات المسلحة، الدولية منها وغير الدولية.
ويتّسع هذا الإطار ليشمل القرار 2417 الصادر عن مجلس الأمن في 2018م، الذي أدان بشكل مباشر استخدام التجويع كأسلوب من أساليب الحرب، وطالب "جميع الأطراف" بتمكين وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق.
ويُضاف إلى ذلك المادة الثامنة من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، التي تُعرّف "تجويع السكان المدنيين عمداً" عبر حرمانهم من المواد الضرورية لبقائهم، بأنه "جريمة حرب".
ولا يُشترط في هذا السياق إثبات نية مباشرة من قبل القادة "الإسرائيليين"، إذ يُمكن استنتاج القصد الجنائي من مجمل سلوك الحملة العدوانية العسكرية، ومن الآثار الواقعة على الأرض، التي تشمل حالات الوفاة الجماعية وانتشار المجاعة وأمراض سوء التغذية على نطاق واسع.
وبالإضافة إلى ذلك، فإن ما يسمى مشروع "المدينة الإنسانية" وخطة الترحيل القسري للفلسطينيين نحو مناطق محددة تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة، يرقى إلى مستوى جريمة التهجير القسري المحظورة بموجب القانون الدولي، ولا سيما المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة التي تحظر النقل الجبري للأشخاص المحميين من مناطق سكناهم، مهما كانت الدوافع.
تشير التقارير الصادرة عن مؤسسات أممية وطبية إلى تفاقم غير مسبوق في الوضع الإنساني داخل قطاع غزة؛ فقد أعلن برنامج الأغذية العالمي أن ثلث سكان القطاع يضطرون للبقاء دون طعام لأيام متتالية، وأن نحو 90 ألف طفل وامرأة يعانون من سوء تغذية حاد، كما سُجلت أكثر من 71 حالة وفاة بين الأطفال نتيجة التجويع المباشر، في ظاهرة لم يشهد لها العالم مثيلاً في القرن الحادي والعشرين. وقد تجاوز عدد الشهداء الذين ارتقوا أثناء محاولتهم الوصول إلى نقاط توزيع المساعدات عتبة الألف، في ظل استمرار سياسة ما تُعرف بـ"مصائد الجوع"، حيث يُستهدف المدنيون أثناء تجمعهم للحصول على الإغاثة.
إلى جانب ذلك، أعلنت بلدية غزة عن توقف تام لمحطات التحلية، وانقطاع ضخ المياه عن معظم أحياء المدينة، ما وضع أكثر من 1.2 مليون نازح ومواطن في مواجهة كارثة عطش تهدد حياتهم اليومية.
كما حذّر مدير مجمع الشفاء الطبي من انهيار النظام الصحي بشكل شامل، في ظل عجز المستشفيات عن استقبال مزيد من المرضى، وعمل الطواقم الطبية بدون طعام أو دواء أو وقود، ويُضاف إلى هذه المعطيات تسجيل حالات فقدان وعي حاد بين الأطفال والنساء، مع انتشار أمراض مرتبطة بالجوع وسوء التغذية، مثل ضمور العضلات ونقص الطاقة وتراجع الوظائف العصبية.
لا تقتصر المأساة على ما يحدث داخل أسوار المستشفيات أو طوابير المساعدات، بل تمتد إلى تفاصيل الحياة اليومية التي باتت تُدار بمنطق النجاة لا بمنطق البقاء، في ظل انعدام الأمن الغذائي والمائي والصحي. يؤكد تقرير "أونروا" الأخير أن مليون طفل فلسطيني يُجَوَّعون بشكل ممنهج، ما يعني أننا أمام جريمة مستمرة تُعيد إلى الأذهان أفظع جرائم القرن العشرين، ولكن في ظل صمت دولي مريب.
المواقف الدولية بين الإدانات الرمزية والتقاعس العملي
رغم خطورة الوضع الإنساني وتكامل عناصر الجريمة، لم تخرج المواقف الدولية عن إطار الإدانات اللفظية والدعوات غير الملزمة، وقد صدر أمس بيان مشترك عن 25 دولة غربية، بينها فرنسا وألمانيا وكندا واليابان، دان ما وصفه بـ"نموذج الحكومة الإسرائيلية في إيصال المساعدات"، واعتبره سبباً في تغذية عدم الاستقرار وانتهاكاً للكرامة الإنسانية.
إلا أن البيان لم يتضمن أي إشارة إلى اتخاذ تدابير قانونية أو سياسية ضد الكيان، واكتفى بالتعبير عن "الاستعداد لاتخاذ مزيد من الإجراءات" في حال استمرار الأزمة، دون تحديد طبيعة هذه الإجراءات أو آليات تنفيذها.
أما على المستوى الأممي، فقد أظهرت مؤسسات كـ"برنامج الأغذية العالمي" و"أونروا" موقفاً أكثر وضوحاً على الصعيد النظري، إذ حمّلت "إسرائيل" مسؤولية تفاقم المجاعة واستهداف المدنيين.
ومع ذلك، لا تزال الأمم المتحدة عاجزة عن فرض آلية مراقبة فعالة لتأمين دخول المساعدات، أو منع استهداف مواقع الإغاثة، في ظل استمرار الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن، وغياب الإرادة الدولية لتحويل الإدانات إلى مسارات قضائية أو سياسية ملزمة.
وقد شكّل نداء "مرصد الأزهر" لمكافحة التطرف أحد الأصوات القليلة التي ارتفعت خارج السياق الدبلوماسي الرسمي، إذ اتهم البيان "إسرائيل" بـ"سياسة التجويع المتعمد"، واعتبر ما يجري في غزة مشروع اقتلاع منظم للسكان، يستند إلى غطاء دولي غير معلن.
وفي غياب موقف حازم من المجتمع الدولي، تتزايد المخاوف من تحوّل سياسة التجويع إلى أداة اعتيادية في الحروب الحديثة، لا تردعها الأعراف ولا تكبحها الاتفاقيات، ما يهدد بنسف المنظومة القانونية التي تأسس عليها القانون الإنساني الدولي.
تكشف الوقائع الميدانية والتحليلات السياسية والقانونية أن ما يجري في قطاع غزة ليس مجرد أزمة إنسانية أو تداعيات جانبية لحرب عسكرية، بل هو جريمة منظمة ومقصودة تُنفذ باسم الحرب وتُشرعَن تحت غطاء الأمن، بينما تنتهك أبسط مبادئ القانون الدولي والضمير الإنساني.
التجويع لا يُستخدم هنا لإضعاف فصيل مسلح من فصائل المقاومة، بل لتفكيك شعب بأكمله وإرغامه على الرحيل أو الخضوع، وفي ظل عجز المؤسسات الدولية وتقاعس القوى الكبرى، تصبح مسؤولية فضح هذه الجريمة ومقاومتها أخلاقياً وسياسياً وقانونياً مسؤولية كل حر في هذا العالم.