موقع أنصار الله. تقرير | يحيى الشامي

في السنوات التي سبقت 21 سبتمبر 2014، كانت اليمن دولة على حافة الانهيار التام، صنفتها الهيئات الدولية، بما فيها الأمم المتحدة والبنك الدولي، بشكل متكرر كـ "دولة فاشلة"، مستدلّة بانخفاض مؤشرات الأمن إلى أدنى مستوياتها التاريخية، وشهدت مؤشرات الاقتصاد تراجعاً حاداً، وهشمت هياكل الحوكمة تحت وصاية أجنبية. هذا السياق شكل الأرضية لحركة ثورية لم تُجسّد فقط مجابهة الضغوط الخارجية، بل وأعادت تعريف مسار اليمن نحو السيادة في حركة تختلف جذرياً عن موجة «الربيع العربي» الإقليمية، وجذورها متأصلة في عقود من المقاومة ضد الهيمنة الأجنبية. 

ماقبل الثورة "دولة محبوسة" وفوضى محسوبة

قبل 2014، كانت اليمن محصورة في ما يُوصف بـ«ثلاثة سجون»: هيمنة أمريكية مطلقة، ووصاية خليجية سعودية منفردة، ونخبة حاكمة متشبثة بالتوريث، عملت الرئاسة تحت ظل سفارتين أجنبيتين؛ كانت الحكومة تابعة لعشر سفارات، وهي الدول التي كان اليمن يحتكم لها في حينه وعرفت بـ"الدول العشر"، بينما مجلسا النواب والشورى شُلّا تماماً بسبب "مبادرة الخليج"—اتفاقية 2011 المدعومة من الغرب- بهدف إدارة انتقال السلطة دون تغيير الهياكل الأساسية للسيطرة الخارجية، وهي العقدة التي توقفت عندها ثورة 2011م التي تقمّصها رواد السلطة ووجوهها السابقة في عملية احتيال أسهم في تكريسها دول الخليج، وحالت فعلياً دون تحقيق تغيير جذري يمس المنظومة الأساسية للحكم، أو يسمح بأن تطال يد الثورة الأسرة الحاكمة العابثة باليمن وبمقدراته. 

انهار الأمن تحت هذا النظام، عملت القاعدة وداعش والمليشيات الداخلية بحرية تامة، وتغذت الميليشيا من خزينة القوات المسلحة، وتسلحت الجماعات التكفيرية من مخازن الجيش، وتقاسم الإخوة الأعداء المؤسسة العسكرية، وطوّعوا البلد ومقدراته لخدمة مصالحهم الأسرية والحزبية، وامتد الصراع في ذروته ليصل إلى الشوارع التي تحوّلت إلى ساحات قتال، وانتشرت الاغتيالات في عموم المحافظات اليمنية بمتوسط 3 جرائم في الأسبوع الواحد، ووفقاً للسجلات الرسمية، شهدت الفترة بين 2011 و2014 أكثر من 4500 محاولة اغتيال استهدفت شخصيات سياسية وعسكرية، بينما أصبحت التفجيرات في المساجد والمدارس ومواكب الزفاف ظاهرة شبه يومية، عانت البنية التحتية من انهيار مريع: تعرضت أنابيب النفط والغاز وشبكات الكهرباء لمئات عمليات التخريب، وأقر وزير الداخلية آنذاك عبد القادر قحطان في 2013 أن «75 متهماً معروفين» ينفذون هذه الهجمات دون مساءلة قانونية، وصف تقرير الأمم المتحدة لعام 2014 اليمنَ بأنها "قنبلة موقوتة"، مصنفاً إياها كأكثر دولة هشاشة في العالم من حيث الأمن والاستقرار والحوكمة.

ثورة نابعة من السيادة، لا من السيناريوهات الأجنبية 

في حين صُوِّر الربيع العربي عام 2011 -عالمياً- بأنه موجة من التطلعات الديمقراطية، اختلف مسار اليمن جذرياً، صُمِّمت "مبادرة الخليج" -التي توسطت فيها السعودية ودعمتها القوى الغربية- لتبديل حكومة انتقالية بقيادة عبدربه منصور هادي بدلا عن الرئيس علي عبدالله صالح، لكن هذا "الانتقال الديمقراطي" إنما جاء لغرض في نفس الأشقاء في الخليج، خشية أن تطالهم يد التغيير وعدوى الثورة، وعليه فلم تُحدث المبادرة سوى مزيد من تكريسِ النفوذ الأجنبي، كما أوضح دبلوماسي في تصريحات سرية: "كانت المبادرة تهدف إلى إدارة الاختلافات بين نظام ذي رأسين، مع الحفاظ على الولاءات الإقليمية للولايات المتحدة والدول الخليجية". 

لم تكن المعارضة وقتها أداة للتغيير الحقيقي، بل بوابة جديدة للنفوذ الخارجي نفسه، كما قال السياسي الدكتور أحمد السقاف في شهادته على المرحلة يومها: لم تكن المعارضة وسيلة لاستعادة السيادة اليمنية، بل كانت قناة لتصدير الهيمنة الأجنبية تحت غطاء الإصلاح. 

في ظل هذا الوضع السوداوي وإعادة النظام القديم تدويره لذاته، نشأت ثورة الـ21 سبتمبر ليس كرد فعل على الربيع العربي، بل في ذروة سنوات من الإرادة الشعبية الجماهيرية، هدفها كان واضحاً: تدمير المشروع الخارجي الذي جمّد استقلال اليمن لأربعة عقود، وعلى عكس الربيع العربي، الذي اعتمد على موافقة الغرب والخليج، رفضت الثورة صراحة التدخل الأجنبي، ومثل هذا الرفض جوهر مطلبها وصلب أهدافها، كما أوضح أحد الثوار في أكثر من حفل وحشد شعبي وبيان في ما مجمله: لم نطلب اعترافاً من واشنطن أو الرياض، بل هدفنا هو إنهاء سيطرتهم. 

مبادرة الخليج جسر نحو التفكيك

في الأساس فإن مبادرة الخليج صممت خريطة لتفكيك اليمن  أكثر مما خلقت استقراراً فيه، فقد دعمت القوى الغربية والخليجية عبرها مشروعاً لأقلمة اليمن، أي تقسيمه إلى كيانات شبه مستقلة لتناسب مصالحهم الإستراتيجية. كما أشار مسؤول سابق في الأمم المتحدة، وهو ما عُد اعترافاً صريحاً وواضحاً أن المبادرة لم تكن تهدف أو تتوخى وحدة اليمن واستقلاله، بل لخلق إمارات صغيرة قابلة للإدارة والتوجيه الخارجي.

في وجه هذا التدخل الخارجي جاءت الثورة بعزم شعبي قاهر، وقادر على مجابهة إرادة الخارج، وتحدي مشاريع الأجنبي، والتصدي لمخططات التمزيق والتفتيت. رفضت الثورة هذا المسار، ووقفت بصلابة في وجهه، وحظيت بالتفاف شعبي واسع في كل المناطق والمحافظات التي بلغتها، فقد كانت من الشعب اليه وبه، متسقة مع هويته، ومنبثقة من معتقده، ومنسجمة مع مبادئه وقيمه، وهو ما سهّل دخول الثوار صنعاء في العام 2014م دون سفك دماء، ولا اجتراح حرب أهلية طالما هدّد بها الخارج و حذّر منها شركاء السلطة ا لفاسدة في الداخل. فكان في سبتمبر دخول العاصمة على هذا النحو الهادئ والسريع، وفي الوقت نفسه أطلق تحولاً جذرياً في مؤسسات الدولة، مستهدفاً النفوذ الأمريكي والعملاء الخارجيين وآثار النظام الفاسد. بمعنى أصح أن الثورة أعادت تعريف السيادة، وهو ما قاله أحد القادة العسكريين في الأيام الأولى للثورة: "لم تكن المسألة استبدال قائد بآخر، بل استعادة السيطرة على الموارد والحدود ومصيرنا". 

الأمن والاستقرار انعكاس المسار

 كانت صنعاء مزيجاً من المليشيات المسلحة التي تعمل بحريّة في مناطق سيطرة الحكومة، كل يوم تقتل وتغتال وتفجر وتهدد، لا يكاد شارع من شوارع العاصمة يخلو من دم أو دخان. بعدها -وبمجرد دخول الثوار- تحول المشهد الأمني جذرياً، عملت اللجان الشعبية -أو ماتعرف بالوحدات الأمنية الشعبية التي تشكلت خلال الثورة- على خفض معدلات الجريمة بنسبة تزيد عن 80% في المحافظات الرئيسة، وفق بيانات وزارة الداخلية اليمنية، أصبحت الاغتيالات والتفجيرات -التي كانت وقائع يومية- نادرة، «لم تكن الدولة قادرة على حماية مواطنيها»، قال ضابط شرطة سابق في صنعاء، «الشعب تدخل وحقق ما عجزت عنه السلطة. وهكذا لمس الناس التغيير بعد ساعات من الثورة.  

وفي شهادة أممية أقرت مجموعة الأزمات الدولية في تقرير عام 2023 أن الوضع لا يزال معقداً، لكن الفوضى ما قبل 2014 استُبدلت بها بيئة أمنية أكثر قابلية للتنبؤ في المناطق الخاضعة لسيطرة الثورة. 

تحدي رواية «الانقلاب»: حقائق فوق الخيال

يردد خصوم الثورة مصطلح "انقلاب"، وهو مصطلح يتجاهل انهيار النظام ما قبل 2014 بشكل كامل، لكن البيانات تروي قصة مختلفة، تحت حكومة هادي (2012–2014)، صنفت اليمن بين أكثر دول العالم فساداً، وارتفعت الديون العامة إلى 120% من الناتج المحلي الإجمالي رغم صادرات النفط والمساعدات الخارجية، بعد أن أعلنت الحكومة علناً أنها "لا تستطيع دفع رواتب الشهر المقبل ما لم ترفع الدعم كلياً عن المشتقات النفطية" - كما أكد وزير المالية آنذاك صخر الوجيه، وفق سجلات صندوق النقد الدولي.

في المقابل، بلغت اعتمادية النظام السابق على القوى الأجنبية مستويات غير مسبوقة. في 2012، أصبحت اليمن أول دولة في التاريخ الحديث تطلب إشرافاً دولياً بموجب قرار مجلس الأمن الدولي 2051 (الفصل السابع)، ما وضع سيادتها تحت الوصاية الدولية، كما أوضح دبلوماسي أمريكي سابق في تصريح غير معلن.

 بعد أحد عشر عاماً من 21 سبتمبر 2014، يظل إرث الثورة حياً رغم المحاولات العسكرية الخارجية -بقيادة السعودية والولايات المتحدة- لإجهاضها. صمدت اليمن وتجاوزت التوقعات. نجاح الثورة لا يكمن في الانتصارات العسكرية وحدها، بل في قدرتها على إعادة تشكيل السردية الوطنية، فاليمن ليست قطعة في لعبة أجنبية، بل أمة تمتلك قرارها، وقادرة على تحديد مصيرها.

لليمنيين، لا تزال ذكريات الفوضى ما قبل 2014 حية: التفجيرات، والاغتيالات، والدمار الاقتصادي. لكن اليوم، حتى المنتقدون يعترفون بالفرق الصارخ: "قبلها، كنا دولة بلا مستقبل"، قال ساكن في صنعاء "الآن، لدينا فرصة لبناء وطن واحد، ومستقبل واعد يضع اليمن في موقعه الحضاري المحترم والوازن على مستوى المنطقة والعالم".