موقع أنصار الله | تقرير
لم تعد اللغة قادرة على حمل وزر ما يحدث في غزة، إذ استنزفت الإبادة المستمرة -منذ أكثر من 700 يوم- كُلّ ممكنات القول، وأرهقت بلاغات التعبير أمام هول مشهدٍ تآكلت فيه الإنسانية، حيث يقف الغزيون اليوم -بعد أسابيع قليلة من "اتفاق وقف إطلاق النار" الهش- أمام معاناة جديدة لا تقل عن قسوة آلة القتل الصهيونية.
دخل فصل الشتاء المعروف بأمطاره الغزيرة التي أغرقت خيام النازحين المهترئة، ليكشف عورات النظام العالمي، وتواطؤ الأنظمة العربية التي استبدلت بعروبتها تبعيةً مذلة، وتركت "الجسد الواحد" ينهشه البرد والجوع والقصف المتقطع.
وفي خضم هذا المشهد السياسي الموغل في الخيانة، يبرز الواقع الإنساني كجرح نازف لا يندمل؛ فمع دخول أول منخفض جوي لهذا الموسم، تحول قطاع غزة إلى ساحة من الطين والوجع، حيث يطارد الكابوس آلاف النازحين الذين وجدوا أنفسهم محاصرين بين مطرقة الطبيعة وسندان العدوان والحصار.
وفي مشهد يختزل المأساة، تروي آية فرح أبو نصر، الشابة النازحة في منطقة "دوار 17" غرب دير البلح، تفاصيل ليلة مرعبة لم تكن فيها السماء تمطر ماءً فحسب، بل قهرًا وعجزًا؛ إذ لم تتخيل أن خيمتها ستغرق مع أول "رشة ماء"، ليتحول المأوى المفترض إلى مصيدة باردة. وتقول بصوت يرتجف: "كان الأطفال يرتجفون، أيديهم ووجوههم حمراء من البرد، وقلبي يعتصر ألمًا وأنا أحاول تهدئتهم"، واصفةً كيف انهارت والدتها من التعب بينما كانت المياه تتسلل لتبتلع ما تبقى من "حياة" داخل الخيمة، في معركة خاسرة ضد السيول الجارفة التي لم تترك مكاناً للنوم أو الراحة.
مأساة عائلة "آية" لم تعد حالة فردية، وإنما صدىً لصرخات جماعية يوثقها مشهد طفل غزي يقف تحت المطر منكمشاً في خيمته الممزقة وهو يردد ببراءة مذبوحة: "خُذنا يا الله"؛ عبارة تفوق رمزية دعاء، لتعبر عن إعلان وفاة للضمير العالمي، وتلخيصاً لانهيار إنساني شامل تعيشه غزة، حيث لم تعد الخيام مأوى، بل تحولت إلى سجون مائية وفخاخ للموت البطيء.
وتتكرر المأساة في منطقة "المواصي" غرب خانيونس، حيث عاشت مريم اصليح -الحامل في شهرها التاسع- ليلة من الرعب بعدما غمرت المياه خيمتها، محاولةً عبثاً إخراج الماء بآنية بلاستيكية، لتجد نفسها وأطفالها بلا أغطية ولا فراش. تقول بمرارة: "القلوب تبكي دماً"، في وقت تواصل فيه سلطات العدو الإسرائيلي منع إدخال مواد الإيواء، متنصلة من التزامات اتفاق وقف إطلاق النار الذي يفترض أنه دخل حيز التنفيذ في العاشر من أكتوبر الماضي، والذي جاء بعد حرب إبادة خلفت أكثر من 70 ألف شهيد ونحو 170 ألف جريح.
وتشير المعطيات الميدانية التي أوردها المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، إلى أن 1.5 مليون نازح يعيشون داخل خيام، 93% منها (حوالي 125 ألف خيمة) لم تعد صالحة للاستخدام الآدمي بعد أن اهترأت بفعل حرارة الصيف وقصف العدو الإسرائيلي، فيما يحتاج القطاع بشكل عاجل إلى 250 ألف خيمة و100 ألف "كرفان" لستر العائلات التي تلتحف السماء.
ورغم المناشدات التي أطلقتها بلدية غزة والدفاع المدني، محذرين من أن البنية التحتية المدمرة بنسبة 90% لا تقوى على تصريف مياه الأمطار التي تختلط بمياه الصرف الصحي وتغزو مراكز الإيواء، إلا أن الاستجابة الدولية تظل خجولة، ومقيدة بالإملاءات الأمريكية والصهيونية؛ إذ أكدت وكالة "أونروا" وبرنامج الأغذية العالمي أن النازحين يستقبلون الشتاء في العراء وبإمدادات طعام فاسدة، محذرين من كارثة لا يمكن إصلاحها إذا استمر منع دخول المساعدات.
إن ما يجري في غزة اليوم، تحت وابل الأمطار وفي ظل الخروقات الصهيونية المستمرة للاتفاق وسقوط الشهداء يومياً، هو فصل جديد من فصول حرب الإبادة التي تشنها منظومة آلة الحرب "الإسرائيلية"، والتي تهدف لكسر إرادة شعب رفض العبودية وتمرد على نسق الاستسلام السائد في أروقة أنظمة التطبيع العربية الإسلامية، وصمت الخزي الإنساني والدولي.
فالخيمة التي تغرق الآن في غزة، تغرق معها شعارات حقوق الإنسان الزائفة، وتكشف زيف "النظام العالمي" الذي يرى دمعة الطفل الفلسطيني ولا يتحرك، بينما تظل غزة 'رغم الجراح والخذلان وصقيع الخيام- متمسكةً بخيار الصمود، مدركةً أن معركتها ليست دفاعاً عن الجغرافيا فحسب، بل عن القيم الإنسانية التي داستها جنازير دبابات الاحتلال وصمت العواصم المتخاذلة.
في الشق الآخر من هذه التراجيديا، حيث تسقط الأقنعة عن وجه "المجتمع الدولي"، تقف المنظمات الأممية موقف العاجز الذي يكتفي بإحصاء الضحايا وتوصيف شكل الموت، دون أن تملك، أو تُملّك، القدرة على وقف الجريمة؛ فبرنامج الأغذية العالمي -وهو أحد أذرع الأمم المتحدة- لم يجد حرجاً في الاعتراف بأن العائلات في غزة (التي نجت من صواريخ الطائرات الأمريكية الصنع) تُترك اليوم لتستعد لشتاء آخر في العراء، بل وكشفت بياناته عن فضيحة مدوية تلطخ جبين الإنسانية، حين أقر بأن النازحين لا يواجهون البرد فحسب، بل "إمدادات طعام فاسدة"، في إشارة صريحة إلى حرب التجويع الممنهجة التي يمارسها الكيان الإسرائيلي، والتي حولت ما يدخل من فتات المساعدات إلى سموم إضافية تفتك بالأجساد المنهكة.
هذا العجز الأممي الفاضح، أكدته وكالة "أونروا" التي بدت نداءاتها كصراخ في وادٍ غير ذي زرع، حين أعلنت تضرر مئات الخيام والمساكن المؤقتة، كاشفةً عن رقم مرعب؛ إذ تأثرت أكثر من 13 ألف أسرة بشكل مباشر مع أولى زخات المطر، فيما يقبع مليون إنسان في مواقع نزوح تحولت إلى مستنقعات للأوبئة. ورغم تحذيراتها من أن الخيام تتمزق وتنهار، وأن الوضع يفاقم حالة الطوارئ، إلا أن هذه التحذيرات تظل مجرد حبر على ورق في ظل "فيتو" الهيمنة الغربية الذي يمنع حتى دخول "شوادر" بلاستيكية تقي الأطفال سياط البرد.
وعلى الأرض، تتكشف فصول أكثر قتامة لما يمكن تسميته "الإبادة البيئية والصحية"، حيث أطلقت بلدية غزة صرخة تحذيرية تكشف عن انهيار شامل؛ فشبكات تصريف الأمطار دُمرت عمداً، والمياه العادمة (مياه الصرف الصحي) بدأت تطفح لتختلط بمياه الأمطار وتجتاح خيام النازحين، في مشهد سريالي مقزز يعكس رغبة العدو في إذلال الفلسطيني حتى في مأمنه المؤقت، تاركاً إياه يغرق في مزيج من الوحل والقاذورات، بينما يقف العالم على قاذورات تحضره متفرجاً بلا حراك، وكأن هؤلاء البشر ليسوا سوى أرقام فائضة عن الحاجة.
وفي زوايا هذا المشهد القاتم، تبرز قصص تتجاوز في وجعها حدود الوصف، لتشكل إدانة أبدية لكل من صمت؛ ففي منطقة المواصي، ، ترسم مريم اصليح، السيدة الحامل في شهرها التاسع، ملامح القهر المطلق؛ فهي لا تنتظر مخاض الولادة بأمل، بل برعب، إذ غمرت المياه خيمتها بالكامل، ووقفت عاجزة وهي ترى فراشها الوحيد يطفو فوق الماء الموحل، تتساءل بدموع: "أين سأضع مولودي؟ وهل قُدّر له أن يفتح عينيه على سقف خيمة يقطر ماءً وقهراً؟"، في قصة تفضح زيف شعارات حقوق المرأة والطفل التي يتشدق بها الغرب، وتسقط كل ادعاءات الإنسانية أمام أنات أمٍ لا تجد غطاءً جافاً يستر ضعفها ومولودها القادم.
تلك القصص، وتلك المواقف الدولية المرتجفة تؤكد -بما لا يدع مجالاً للشك- أن ما يجري هو استكمال لحلقات الإبادة، وأن "اتفاق وقف إطلاق النار" المزعوم ما هو إلا غطاء لتغيير أدوات القتل، من البارود والنار إلى الصقيع والمرض والقهر، في ظل نظام عالمي متوحش، وأنظمة وظيفية ارتضت أن تكون شريكة في وأد غزة، بصمتها تارة، وبتآمرها تارة أخرى.