أنصار الله | تقرير
في يومٍ خُصص عالمياً للاحتفاء بالطفولة، لا تُقرع في فلسطين أجراس الفرح، بل تُقرع أجراس الإنذار. فمنذ اللحظة الأولى للاحتلال، لم تكن الطفولة الفلسطينية بمنأى عن الاستهداف، بل كانت في صلب المشروع الاستعماري الذي أدرك مبكراً أن كسر الأجيال يبدأ من سحق براءتها. فمن دير ياسين إلى جنين، ومن صبرا وشاتيلا إلى غزة، ظل الطفل الفلسطيني هدفاً مباشراً للقتل والاعتقال والتهجير، في محاولة ممنهجة لقطع شريان الحياة عن شعب بأكمله.
وفي هذا اليوم(20 نوفمبر) الذي يُفترض أن يكون مساحة للبهجة والحماية، يتحول في فلسطين إلى مرآة دامية تعكس واحدة من أفظع الجرائم التي يشهدها العصر الحديث. وبينما يواصل العدو الإسرائيلي جرائم حربه المفتوحة على قطاع غزة، تتكشف فصول جديدة من المأساة، حيث لا تقتصر الإبادة على القصف والتجويع، بل تمتد إلى الزنازين، حيث يُسلب الأطفال حريتهم وكرامتهم في آنٍ واحد، ويُعاد تشكيل ملامح طفولتهم تحت سياط التعذيب، وفي ظلال الإهمال الطبي، وبين جدران العزل.
إن ما يجري اليوم امتداد لسلسلة طويلة من الانتهاكات التي بدأت منذ النكبة، وتواصلت عبر العقود لتتحول إلى سياسة ثابتة تُمارس بدم بارد، وتُغلف أحياناً بلغة "القانون" الزائف، وأحياناً أخرى بصمت دولي.
وبينما يُحتفى بالطفولة في عواصم العالم، العدو الإسرائيلي يدفن الأطفال في غزة تحت الركام، ويسوقهم في الضفة إلى المحاكم العسكرية، ويحرمهم من أبسط حقوقهم في الحياة، والتعليم، والحماية.
ما يعانيه الطفل الفلسطيني يفوق ما يمكن وصفه بالمأساة الإنسانية، ليصبح جريمة تاريخية تُرتكب على مرأى العالم، وتُسجل في دفاتر الطفولة الفلسطينية كفصلٍ آخر من فصول النكبة
المستمرة.
في بيان صادر عن المكتب الإعلامي الحكومي، كُشف النقاب عن أرقام صادمة تُجسد حجم الكارثة التي ارتكبها العدو الإسرائيلي: أكثر من 20,000 طفل استشهدوا منذ بدء العدوان الإسرائيلي، بينهم أكثر من ألف رضيع لم يبلغوا عامهم الأول، و450 آخرون وُلدوا واستشهدوا في ذات العدوان. هذه الأرقام -كما وصفها البيان- "ليست إحصاءات، بل شواهد دامغة على جريمة إبادة جماعية تُرتكب بحق الطفولة الفلسطينية في القرن الحاضر".
ولم يكن الموت وحده هو المصير، بل امتدت المأساة إلى أشكال أخرى من المعاناة، إذ استشهد 154 طفلاً جوعاً نتيجة الحصار الذي يفرضه العدو الإسرائيلي، بينما استشهد 14 آخرون برداً في مخيمات النزوح القسري، حيث لا مأوى ولا دفء.
أكثر من 864 طفلاً فلسطينيا باتوا من أصحاب البتر بسبب القصف الصهيوني المباشر، فيما يحتاج 5,200 طفل إلى إجلاء طبي عاجل لإنقاذ حياتهم، وسط منع متعمد لحقهم في العلاج والتنقل. هذه المعطيات -وفق المكتب الإعلامي- تمثل "أكبر موجة إعاقات جماعية تصيب الأطفال في تاريخ فلسطين المعاصر".
وتحت عنوان "التجويع كسلاح"، كشف التقرير أن 650,000 طفل مهددون بالموت جوعاً، بينما يواجه 40,000 رضيع خطر الموت بسبب نقص حليب الأطفال. هذه الأرقام تنذر بكارثة إنسانية غير مسبوقة، وتؤكد تعمد العدو الإسرائيلي استهداف الأطفال الرضع ضمن سياسة الإبادة.
أكثر من 56,348 طفلاً فقدوا أحد الوالدين أو كليهما، ويعيشون اليوم بلا حماية أو بيئة آمنة، وسط صدمة جماعية ستترك آثاراً نفسية عميقة لعقود قادمة. المكتب الإعلامي وصف هؤلاء الأطفال بأنهم "ضحايا الإبادة الجماعية الأشد قسوة في هذا القرن".
في موازاة القصف، تُظهر المعطيات التي جمعتها مؤسسات الأسرى الفلسطينية أن واقع اعتقال الأطفال في سجون العدو الإسرائيلي دخل مرحلة أكثر قسوة منذ بدء الحرب. لم يعد الأمر مجرد امتداد لسياسات القمع القديمة، بل بات منظومة متكاملة تستهدف الطفولة بصورة منهجية، وتُعمّق الأذى الجسدي والنفسي.
سُجلت أكثر من 1,630 حالة اعتقال لأطفال في الضفة الغربية بما فيها القدس خلال فترة قصيرة، إضافة إلى عشرات الأطفال من غزة الذين اختطفهم العدو خلال العدوان على غزة ، وغابت المعلومات عن كثير منهم نتيجة الإخفاء القسري ومنع الزيارات. ويقبع اليوم نحو 350 طفلاً فلسطينيا داخل السجون الإسرائيلية، بينهم طفلتان، يتعرضون للتعذيب والتجويع والإيذاء الطبي والعزل.
وتبدأ صدمة الاعتقال منذ اللحظة الأولى، حين تقتحم قوات العدو الإسرائيلي المنازل فجراً، تحطم الأبواب، وتوقظ العائلات وسط صراخ الصهاينة. يُجبر الأطفال على الوقوف أو الجلوس على الأرض لساعات، ويُنقلون مقيدين إلى الجيبات العسكرية. في الساعات الأولى، يُخفى كثير منهم قسرياً، دون قدرة العائلات على معرفة مكان وجودهم أو وضعهم الصحي.
أما التحقيق فهو محطة قاسية تُحتجز فيها الطفولة في غرف ضيقة بلا تهوية، ويُخضع الأطفال لساعات طويلة من الاستجواب وسط حرمان من النوم، ووسط التهديد والضغط النفسي.
داخل السجون الإسرائيلية، يعيش الأطفال في غرف مكتظة، بملابس قليلة، وأدوات شخصية مصادرة. تتكرر الاقتحامات الليلية التي ينفذها العدو، وتُنفذ وحدات خاصة صهيونية عمليات قمع بالعصي والكلاب والغاز. تتفاقم الأمراض الجلدية بسبب غياب النظافة، ويُحرم الأطفال من العلاج أو يُعطون مسكنات لا تتناسب مع حالتهم.
يروي المركز الفلسطيني للإعلام، قضية الطفل الشهيد وليد خالد أحمد من بلدة سلواد، والذي تُجسد حالته مستوى الجرائم المرتكبة. استشهد داخل سجن “مجدو” التابع للعدو الإسرائيلي في مارس 2025 جرّاء الجوع والحرمان والإهمال الطبي. كشف تقرير التشريح عن ضمور شديد، غياب شبه كامل للكتلة العضلية، انتفاخ هوائي في الصدر والبطن، وطفح جلدي واسع بسبب الجرب. إنها بنية تعذيب وتجويع ممنهجة أدت إلى وفاته.
وفي غزة، لم يكن الاعتقال مجرد احتجاز، بل ترافقت معه انتهاكات مروعة. العدو الإسرائيلي استخدم الأطفال كدروع بشرية خلال العمليات العدوانية، وتعرضوا لتعذيب قاسٍ، وتجويع متعمد، وحرمان من الماء، وعزل مستمر.
يروي الطفل م.ك (17 عاماً) تفاصيل ستة أشهر من الاحتجاز في معسكري "سديه تيمان" و"عوفر" التابعان للعدو الإسرائيلي، حيث نام طوال تلك الفترة وهو مكبل بالأصفاد. لم يحصل على ملابس كافية، وانتشرت أمراض الجلد داخل الغرف. تعرّض لاقتحامات يومية، وضرب بالعصي والغاز، ومنع متكرر من الاستحمام.
أما الطفل ص.ر (15 عاماً) فقد استخدمه العدو الإسرائيلي كدرع بشري خلال إخلاءِ حي السلطان في رفح. أُجبر على دخول البيوت قبل القوات، بعد أن ألبسوه زياً عسكرياً. احتُجز 48 يوماً، وتعرض لمخاطر مباشرة من بينها هدم منزل فوقه وإطلاق نار تجاه المكان الذي كان فيه.
وفي مشهد يُجسد انهيار الحد الأدنى من مقومات الحياة، كشفت تقارير أممية عن غرق مئات الخيام والملاجئ المؤقتة في قطاع غزة مع بداية فصل الشتاء، ما أثر على أكثر من 13 ألف أسرة نازحة، وأعاد إلى الواجهة مأساة مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين يعيشون في خيام مهترئة بعد أن دمر العدو الإسرائيلي منازلهم وأجبرهم على النزوح. المأساة لم تتوقف عند حدود التشريد، وإنما تفاقمت مع انهيار نظام الصرف الصحي، ما أجبر الأطفال على النوم فوق الأرض، بملابس مبللة بمياه ملوثة اختلطت بمياه الأمطار والصرف الصحي، وفق ما حذرت منه منظمة "أنقذوا الطفولة" الدولية.
المنظمة وصفت المشهد بأنه "كارثة صحية متفجرة"، مشيرة إلى أن الأطفال يواجهون خطر الإصابة بأمراض قاتلة في ظل غياب الأحذية والملابس الجافة، وتعرضهم المستمر للبرد والرطوبة. وأضافت أن انهيار البنية التحتية بعد عامين من القصف والحصار جعل من كل خيمة بؤرة محتملة لتفشي الأمراض، حيث غمرت المياه الملوثة المراتب والبطانيات وحتى أكياس الطعام.
ووفق بيانات منظمات الإغاثة، فإن أكثر من 700 ألف طفل في غزة معرضون لمخاطر الأمراض والموت، يعيشون في خيام تتهاوى كل لحظة، بينما تضرر أكثر من 81% من المباني، ما أجبر العائلات على خياطة البطانيات وسد الثقوب بأي مواد متاحة. وقد حذرت منظمات دولية من تزايد خطر سوء التغذية، والإصابة بأمراض مثل الإسهال والالتهاب الرئوي، خاصة مع انخفاض درجات الحرارة، التي تسببت خلال الشتاءين الماضيين في وفاة ما لا يقل عن 14 طفلاً، بينهم رضع.
وفي تصريح، قال أحمد الهنداوي، المدير الإقليمي لمنظمة إنقاذ الطفولة: "لشتاءٍ ثالث على التوالي منذ بدء العدوان الإسرائيلي المكثف في أكتوبر 2023، لا يزال الأطفال في غزة ينشدون أماكن آمنة ودافئة للنوم". لكن في ظل استمرار الحصار، والتواطؤ والصمت الدولي، يبدو أن دفء العالم لا يصل إلى خيام غزة، وأن الطفولة هناك لا تزال تُدفن تحت المطر، كما دُفنت من قبل تحت الركام.
في المشهد الختامي لهذا الفصل المروّع من التاريخ، لا يبدو أن الطفولة الفلسطينية تُسحق فقط تحت أنقاض البيوت أو في زنازين التحقيق، بل تُسحق أيضاً تحت وطأة نظام دولي فقدَ بوصلته الأخلاقية، وتحت صمت عربي مريب. فالجريمة التي تُرتكب بحق أطفال غزة والضفة تحوّلت إلى منظومة إجرامية متكاملة تُمارس في وضح النهار، وتُوثّق بالصوت والصورة، دون أن تُقابل بأي ردة فعل رادعة.
العدو الإسرائيلي -الذي يواصل حربه المفتوحة على الطفولة- يتحرك في فضاء دولي مُعقّم من العدالة، محصّن من العقاب، محاط بجدران من الحصانة. بيانات باهتة ومواقف رمادية تُغلف الجريمة بورق القانون الدولي دون أن تلامس جوهره.
أما المنظمات الدولية التي وُجدت لحماية الإنسان فقد سقط عنها القناع. لم تعد أكثر من واجهات بيروقراطية تُصدر تقارير موسمية، وتُدير أزمات الأطفال الفلسطينيين بلغة الإحصاء لا بلغة الإنقاذ. اليونيسف، مجلس الأمن، محكمة الجنايات، كلها بدت عاجزة و متواطئة مع العدو الإسرائيلي، تُدير ظهرها لأطفال يُقتلون جوعاً ويُستخدمون كدروع بشرية، ويُدفنون بلا أسماء.
إن ما يجري يفوق وصفه بمأساة إنسانية، ليعبر عن انهيار أخلاقي شامل لنظام دولي يدّعي حماية الطفولة، بينما يتركها فريسة للإبادة الصهيونية. وبينما يُحتفى بيوم الطفل العالمي في عواصم العالم بالبالونات والورود، يُحتفى به في غزة بالدموع والقبور.
هكذا، تُكتب الطفولة الفلسطينية بلون الدم، وتُروى حكايتها في دفاتر الشهداء، لا في كتب القانون. وبين المطرقة الإسرائيلية وسندان الصمت الدولي.