موقع أنصار الله . تقرير
في اللحظة التي يتصاعد فيها الصراع في المنطقة، وتتشابك فيها مصالح القوى الإقليمية والدولية على حساب الجغرافيا اليمنية، تخرج إلى العلن ملامح تحوّل خطير كان يحاك بصمت خلف الستار، ففيما اقتصر سابقاً على الحرب العسكرية وصراع النفوذ التقليدي، أصبح اليوم مشروعاً متشابك الأذرع، تتداخل فيه المصالح السياسية مع التحالفات الأمنية، وتلتقي عنده رغبات الكيان الصهيوني مع أدوات العدوان الإقليمي، ليعاد رسم المشهد بصورة مغايرة تماماً لما يظهر على السطح.
من عدن إلى أبوظبي، ومن الرياض إلى "تل أبيب"، تمتد خيوط التفاهمات والصفقات والمشاريع المعبّأة ضد اليمن، يدار بعضها في المكاتب المظلمة، ويعلن بعضها الآخر في خطابات لا تخجل من تبنّي الخارج، وفي قلب هذا المشهد المعقد، يتقدّم المرتزقة في ارتباطهم بالكيان الصهيوني، ليصبحوا جزءاً من منظومة أوسع هدفها كبح صعود القوة اليمنية التي كسرت معادلات البحر والبر، وأربكت موازين الردع في المنطقة.
إنه زمن التحالفات غير البريئة، زمن المشاريع التي تبرم في الخفاء ثم تلقي بظلالها على حاضر اليمن ومستقبله.
في هذا التقرير سنوضح ملامح تلك الخيوط المتشابكة بين خطوات مليشيات "الانتقالي"، وتنسيق الإمارات والسعودية، وبناء التحالفات البحرية، وصولًا إلى اليد الصهيونية التي تحرك المشهد من خلف الستار، بحثاً عن وكلاء يحمون مصالحها في البحر والبر.
في مشهدٍ يكشف جانبًا من التحوّلات المعتمة في خريطة التحالفات الإقليمية، ويعرّي مساراً خفيًّا ظل يتشكل في صمت خلف كواليس العدوان على اليمن، أطلت صحيفة «ذا تايمز» البريطانية بتقريرٍ يفضح مداولات سرّية جرت بين وفود أوفدها ما يسمّى "المجلس الانتقالي" المدعوم إماراتياً ومسؤولين من الكيان الإسرائيلي. خطوة حملت رائحة استغلال سياسي لا يخطئها البصر، وتشي بتحالفات متشابكة تبنى على هواجس مشتركة وعدو واحد، انطلاقاً من النزعات العدوانية التي يتبناها "الانتقالي" والكيان الصهيوني.
وبحسب الصحيفة، فإن هذا التقارب ينبع من "قضية واحدة" تجمع الطرفين تتمثل في مواجهة الجيش اليمني الذي نجح -خلال العامين الماضيين- في تنفيذ عمليات نوعية بالصواريخ والطائرات المسيّرة ضد العدو الإسرائيلي، مكبّداً إياه خسائر مادية ومعنوية لا يستهان بها.
وتضيف الصحيفة أن مليشيات "الانتقالي" تلوّح بالاعتراف الرسمي بـ"إسرائيل" بمجرد إعلان ما تسميه "استقلال الجنوب العربي"، معتبرة هذه الورقة أثمن أوراقها للحصول على دعم خارجي يمهّد لها الطريق نحو مشروعها الانفصالي. وهذه أخطر نقطة تحوّل منذ اندلاع العدوان الأمريكي السعودي الذي كان من أهدافه السيطرة على الممرات الدولية والشريط الساحلي اليمني لتأمين الملاحة الإسرائيلية، حيث كانت مليشيات "الانتقالي" هي رأس الحربة في العمليات العدوانية ضد الجيش اليمني طيلة السنوات العشر الماضية، وها هي تزيح الستار عن خلفيات موقفها المعادي للجيش اليمني.
تقرير "ذا تايمز" كشف طبقات أعمق من العلاقة بين الكيان الصهيوني وأدوات العدوان الأمريكي السعودي الإماراتي في اليمن، إذ جاء التقرير ليؤكد -بصيغة لا تحتمل اللبس- أن الوفود "الانتقالية" قصدت مسؤولين صهاينة انطلاقًاً من "قضية مشتركة" ضد صنعاء، بما يعني أن المسار السياسي الذي اتخذته أدوات العدوان كان يتّجه -منذ البداية- نحو هذا المنحدر.
لقد جاءت هذه التسريبات بعد شهور طويلة من التلميحات التي ظل يطلقها قادة "الانتقالي" وعلى رأسهم المرتزق عيدروس الزبيدي والذي صرح في أكثر من موقف بأن لا مشكلة لديه في تطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني في حال نالت مليشياته الانفصال. كما كان الخطاب الإعلامي والسياسي لمليشيات "الانتقالي" متناغمًا بشكل لافت مع الرؤية الصهيونية تجاه اليمن والمنطق، بل إن أدوات الاحتلال الإماراتي استقدمت -مؤخرًا- وفودًا صهيونية إلى عدن في زيارة اعترف بها الإعلام العبري نفسه، في سابقة تكاد تلخّص طبيعة المشروع الذي يدار هناك والقائم على استغلال الوضع في اليمن بما يؤثر على موقفه المساند لغزة.
أما أخطر ما ورد في التقرير فهو تأكيد المجلة أن "الانتقالي" يسعى لاستقطاب دعم ترامب لتوسيع دائرة التطبيع، مقابل أن يبادر هو إلى الاعتراف بـ"إسرائيل" فور إعلان "الدولة الجنوبية" المزعومة، والتي يسعى إلى انتزاع شرعية لها بفعل خارجي لا بإرادة أهل الأرض، كمقايضة تثبت مدى انسلاخ تلك المليشيات عن كل القيم والمبادئ الدينية، والتي تأتي كثمرة للارتباط بالإمارات الذراع الأول للكيان الصهيوني في المنطقة.
هذا المعطى لا يترك مجالًا للتأويل؛ فمشروع "الانفصال" الذي تروج له أدوات الاحتلال بات جزءاً من هندسة خارجية تقف خلفها قوى يتقدمها الكيان الإسرائيلي، حيث تحوّل "التطبيع" إلى بطاقة ارتزاق سياسي، تلوح بها لاكتساب اعترافات دولية بكيان لا يمتلك شرعية شعبية ولا حقًّا تاريخيًا.
إن ما كشفته «ذا تايمز» ينقلنا من وضعية الشبهة والاحتمال إلى إثبات مكتمل الأركان، يوضح أن كل رسائل الغزَل الصادرة عن المرتزقة خلال الأعوام الماضية لم تكن مجرد مواقف عابرة، وإنما تأتي كمسار سياسي مقصود، تحاول من خلاله هذه الأطراف تقديم خدمات أمنية وسياسية للعدو الإسرائيلي مقابل حماية ودعم.
يرى الخبراء أن أي تصعيد قد يقدم عليه المرتزقة في المرحلة المقبلة لن يكون تصعيداً محلياً أو ناتجاً عن قراءة داخلية، بل سيكون -في عمقه- تصعيداً يخدم المصالح الإسرائيلية التي باتت تنظر إلى اليمن -وبخاصة صنعاء- بوصفه جزءاً محورياً في معادلة الردع الإقليمية، وقد جاءت تصريحات نتنياهو الأخيرة لتؤكد أن الكيان يعيش هاجساً واضحاً تجاه تنامي القوة اليمنية وقدرتها على التأثير في ساحة البحر الأحمر وما حولها.
ومع تنامي العمليات اليمنية في البحر، وما كبدته من خسائر استراتيجية للحماية الأمريكية والغربية للمصالح الإسرائيلية، بدأ الكيان يبحثُ عن وكلاء محليين يتولّون عنه مهمة تنفيذ الأجندة الصهيونية في الجنوب والبحر الأحمر، ليغدو كل تحرك عسكري أو سياسي للمرتزقة جزءًا من حرب بالوكالة، لا صلة لها بحماية اليمن ولا بأهله، بل تصبّ مباشرة في خدمة الأمن الإسرائيلي.
ويُجمِع المراقبون على أن العلاقة بين الطرفين (أدوات العدوان والكيان الصهيوني) تجاوزت المصالح العارضة إلى مشروع ممتد طويل الأمد، يقوم على تبادل خدمات وتنسيق يتعمق مع الوقت، ويُبنى فوق حسابات تتجاهل تمامًا مصلحة اليمن وسيادته ووحدته.
كما أن سعي "الانتقالي" نحو اعتراف إسرائيلي بـ"دولة جنوبية" مستقبلية يكشف حجم الارتهان الذي وصلت إليه هذه الأطراف، ويضع مشروع التفتيت في سياقه الحقيقي كجزء من خطة صهيوأمريكية أوسع تستهدف اليمن من بوابته الجنوبية.
وبناءً على هذه القراءة، فإن ما أزاحت الستار عنه «ذا تايمز» يضع النقاط على الحروف، ويؤكد أن أي تحركات سياسية أو عسكرية تصدر عن مرتزقة العدوان في المحافظات الجنوبية والشرقية ليست تحركات منفصلة، بل حلقات متصلة ضمن مشروع واحد، هدفه النهائي حماية مصالح الكيان الصهيوني وترسيخ نفوذه عبر وكلاء محليين.
وهكذا تكتمل الصورة: علاقة سرية، تطبيع معلن أو مستتر، تنسيق أمني وسياسي تديره غرف خارجية، ومشروع عدواني اتضحت دوافعه دون مواربة، لتكون الخلاصة خيوط خطة صهيوأمريكية تتخذ من تمزيق اليمن مدخلاً، ومن أدوات العدوان جسوراً، ومن التطبيع "جواز مرور" نحو مشروعهم الأكبر في المنطقة.
لم يكن مجرد زائر عابر ذلك الذي دخل عدن في قفص الصحافة الزائف منتصف سبتمبر الماضي، إنه "جوناثان سباير"، الجاسوس الإسرائيلي الذي حطّ رِحاله في قلب الجنوب اليمني، ليقابل "وزير الدفاع" في حكومة المرتزقة " محسن الداعري". كانت الرحلة برعاية إماراتية، والهدف استكشاف الأرض، ورسم خرائط النفوذ، واختبار إمكانية تحويل الجنوب إلى قاعدة متقدمة للمشروع الصهيوني.
الصحيفة الإسرائيلية "جيروزاليم بوست" نشرت لاحقاً تقريراً كتبه "جوناثان سباير"، كشف فيه معلومات أمنية وسياسية عن الوضع في عدن، في احتفاء واضح بأن الزيارة تؤسس لمرحلة جديدة من التعاون مع المرتزقة.

لم يعد المرتزق "عيدروس الزبيدي"، رئيس "الانتقالي"، يرى حاجزاً بينه وبين الكيان الإسرائيلي، ففي تصريحٍ لصحيفة معاريف" العبرية أواخر سبتمبر، قال: "لا مشكلة لدينا في التطبيع مع إسرائيل إذا تحقق استقلال الجنوب"، ثم جاءت تفاصيل لقاءاته في الأمم المتحدة لترسم صورةً أوضح: "دولة جنوبية ستكون جزءاً من اتفاقيات إبراهام"، فيما نقلت الصحيفة في تقرير عن مقابلة للزبيدي مع صحيفة "ذا ناشيونال" قوله إن "جميع شروط قيام دولة جنوبية مستقلة متوفرة، وإن الانفصال عن الشمال سيمنح الجنوب حرية صياغة سياسة خارجية مستقلة، بما في ذلك الانضمام إلى “اتفاقيات إبراهام”.

جاء تقرير معهد "المركز العربي في واشنطن" منتصف نوفمبر ليضع النقاط على الحروف: "الانتقالي هو الفصيل اليمني الأكثر انفتاحاً على إسرائيل". التقرير ربط بين تصريحات المرتزق الزبيدي والاهتمام الإسرائيلي المتزايد، مؤكداً أن مضيق باب المندب صار هدفاً استراتيجياً في مشروع "إسرائيل الكبرى"، و"الانتقالي" هو البوابة.
وبحسب التقرير الذي أصدره معهد Arab Center for Washington D.C “المركز العربي في واشنطن دي سي” وأعدّه الباحثُ الأمريكي "جورجيو كافيرو" من شركة "غلف ستيت أناليتيكس"، فإنَّ " الانتقالي" يسعى بشكل متزايد لفتح قنوات تواصُل مع “إسرائيل”، مستندًا إلى تصريحات سابقة لرئيسه عيدروس الزبيدي خلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي، والتي أبدى فيها انفتاحًا على التطبيع مع الكيان الإسرائيلي في حال قيام “دولة جنوبية مستقلة”.
التقرير يُظهِر التعويلَ الكبيرَ على "الانتقالي"، موضحًا أن تصريحاته ومبادراته المتعلقة بـ“حماية الملاحة البحرية” لاقت اهتماماً في كُـلٍّ من واشنطن وكَيان العدو، خَاصَّةً في ظل أولويات الولايات المتحدة و”إسرائيل” في البحر الأحمر وخليج عدن.
ويجدِّدُ كافيرو التأكيد بأن "الانتقالي" يُعَدُّ الفصيل اليمني الأكثر انفتاحًا على “إقامة علاقة مباشرة” مع الكيان الإسرائيلي؛ بهَدفِ تعزيز شرعيته الدولية في مسار الانفصال، مقابل الحصول على دعم استخباراتي وسياسي، كما يرجِّح التقرير زيادةَ الدعم “الإسرائيلي” للفصائل المدعومة إماراتيًّا في اليمن، وعلى رأسها الانتقالي ومليشيات طارق صالح؛ نظرًا للأهميّة الاستراتيجية التي يكتسبها باب المندب في حسابات المساعي الطموحة لإقامة مشروع “إسرائيل الكُبرى” والهيمنة على كامل المنطقة.

وفي موازاة هذا المسار الخفي بين "الانتقالي" والكيان الصهيوني، تتكشّف طبقات أخرى من المشهد لا تقل خطورة، إذ تتقدّم السعودية والإمارات بخطوات محسوبة على الأرض، تعمل من خلالها على إعادة تشكيل تحالفات بحرية وأمنية تحت لافتات مختلفة، لكنها تتقاطع جميعًا عند هدف واحد يتمثل في تحجيم قوة الجيش اليمني ومنعه من ترسيخ معادلة الردع التي أربكت مشاريع الهيمنة في البحر الأحمر وخليج عدن.
فالقوتان الخليجيتان، اللتان تقومان بدور المقاول الإقليمي للمشروع الأمريكي الإسرائيلي، تواصلان تنسيقاً محكماً مع المرتزقة في عدن وساحل حضرموت والمهرة، بهدف خلق طوق أمني يخدم مصالح الكيان الصهيوني، ويؤمّن خطوط الملاحة المرتبطة به. وهكذا تتداخل التحركات العسكرية مع الترتيبات السياسية لتشكّل شبكة متكاملة من الأدوار: (مرتزقة على الأرض، تمويل خليجي، تخطيط أمريكي، ومصلحة إسرائيلية تتربّع في رأس الهرم)، وهذا التشابك يوضح أن حرب الوكلاء تدار في البر، وتمتد إلى البحر، حيث تسعى هذه الأطراف مجتمعة لفرض معادلة تقيّد الجيش اليمني وتمنع حضوره المتصاعد، في محاولة يائسة لإسناد مشروع الكيان الصهيوني في المنطقة مهما كان الثمن.