موقع أنصار الله . تقرير | وديع العبسي
كم من أسير فلسطيني تم تحريره من سجون العدو الإسرائيلي لم يجد العدو حَرَجاً في اغتياله بعد إطلاقه! وكم من أسير حُرِّرَ لم يجد العدو حَرَجاً في إعادة أسره بفارق أيام!، أدرك القانونيون ومراقبو حقوق الإنسان أن مشكلة الأسرى الفلسطينيين لا تتمحور فقط في تحريرهم، وإنما بإقناع العالم أن التَمَادِي الصهيوني في الاستخفاف بالقوانين بات يتطلب وقفة جادة لإيقاف هذا النزيف لمنظومة القيم والمبادئ التي يُزَيِّنُون بها بياناتهم، بالضغط على الكيان، لإجباره على احترام حقوق الأسرى التي كفلتها القوانين الدولية، ومنها بدرجة أساس القانون الإنساني الدولي.
يُثير السلوك الحيواني للكيان في انتهاك القيم الإنسانية التساؤلَ عن مصير تلك القوانين؛ وغياب المنظمات الدولية المَعنية وعلى رأسها "الصليب الأحمر"؟ إذ لم يحدث أن سمعنا بأن هذه المظلة الدولية قد نجحت في الوصول إلى السجون ومُعاينة الأسرى، وأحدثت أيّ فارق أو تحوّل في ما عاينته من وضع يعيشونه. ولا يمكن التسليم بأن هذه المنظمات مغلوبة على أمرها ولا تمتلك أيّ سلطة لإجبار العدو على التزام ما توافق عليه كل العالم من قوانين، فصفتها الدولية وحرصها على التقييم وإصدار البيانات يعني امتلاكها لمساحة معينة من الحركة والنقد، وهذا النقد بالضرورة أن يكون له معنى وجدوى، حتى لا تفقد هذه المنظمات أهمية وجودها.
ما يجري وراء قضبان سجون العدو الإسرائلي لم يعد خافياً، وقد كشف ما تم تداوله عن كثير من الشواهد التي تؤكد انطلاق العدو في التعامل مع الفلسطينيين من منطلق "عقائدي" يُحَرِّضه على قتلهم وإنهاء أثرهم، فهم كحال باقي المسلمين يَندرجون -بالنسبة لليهود- ضمن "العماليق" حسب عقيدتهم، ولا بد من التخلص منهم جميعاً. لذلك تجد اليهود الصهاينة مُجردين من كل القيم الإنسانية في التعامل مع الأسرى بصورة متناهية من الوحشية، فيتم تجويعهم حتى الموت، وتكسير عظامهم دون تقديم العلاج اللازم لهم.
ويتحدث الأسرى المُحرَّرون عن العشرات من أشكال التعذيب التي كانوا يتعرضون لها كأسلوب الهز العنيف الذي يتسبب بتدمير خلايا الدماغ، وأحياناً يؤدي للوفاة كما حدث للأسير الفلسطيني عبد الصمد حريزات، ومنها العزل في ما يعرف بغرف العار أو "غرف العصافير"، وهي من الوسائل المُستحدثة في التعذيب النفسي. وهناك الضرب المُبرِّح بالسلاسل والقضبان الحديدية، والسحل والضغط على الأرض وعلى الجدران، والمَنْع من النوم ومن قضاء الحاجة، والتهديد بالاغتصاب، وبنَسْف المنازل على رؤوس الأهل.. فضلاً عن التعامل معهم بطريقة حاطة بالكرامة.
في اتفاق تبادل الأسرى الأخير ضمن المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار، نقلت وسائل الإعلام مشاهد الأسرى الفلسطينيين المحررين وقد بَدَوْا بملامح شاحبة وأجساد مُنهكة هزيلة تحمل آثار التعذيب الوحشي. أحد هؤلاء الأسرى واسمه فيصل كان محكوماً بـ30 عاماً قال "إن ما تعرض له الأسرى خلال السنتين الماضيتين من ضرب ومهانة وإيذاء لو وُزِّع على نصف الأمة الإسلامية لكفاهم".
في أحد مستويات المرض النفسي الذي يعانيه الصهاينة وأكَلَ إنسانيتهم لم يكن في ذلك التعامل المُذِل عن عمد عند الإفراج عن الأسرى المُتفق عليهم، وإنما في ما سبق عملية الإفراج، حيث يكشف أحد الأسرى بأنه قُبَيل الإفراج تم عزلهم "بشكل تام عن العالم الخارجي من دون محامين أو زيارات أو حتى الصليب الأحمر"، فيما قامت وحدات خاصة صهيونية مُختصة بالتعذيب بضرب الأسرى عند خروجهم من الأقسام دون انقطاع. بحقد أعمى قلوبهم أرادوا أن يُجَرِّعُوا الأسرى آخر جرعة قُبَيل إخراجهم، إلى لقاء آخر في عملية أَسْر جديدة. حتى أن بعض الأسرى تمنى العودة إلى السجن حسب ما أفاد الأسير فيصل.
وفي ذات المستوى من التعبير عن الحالة المرضية لنفسية الصهاينة، ما كشف عنه البعض عن الجانب الطبي، إذ أكدوا أن الطبيب كان "أول من يعتدي عليهم بالضرب ويرفض إعطاءهم حتى حبة دواء"، الأمر الذي يؤكد أن الإهمال الطبي لم يكن عارضاً لحالات أو وقتياً، وإنما كان مُتعَمَّداً ومُمنهجاً.
وعلى بساطة بعض مظاهر التعذيب إلا أنها تُظهر أيضاً مستوى خِسَّة نفسية العدو، كأن يتم سحب الفراش والبطانيات من الأسرى، وحتى الحرمان من الملابس حسب ما نقلت وسائل إعلام عن بعض الأسرى المحررين.
وخلال التعامل الإجرامي للعدو مع الأسرى لم يكن هناك أيّ اعتبارات يأخذ بها بحيث يراعي بعض الحالات ذات الحاجة لرعاية صحية معينة، كحال الأسير عبد الرحمن سفيان محمد السباتين. شاب في مقتبل العمر، اعتقله العدو رغم إصابته برصاص قواته، وخلال فترة الاعتقال تم إهمال علاجه، والتعامل معه بسياسة الانتهاكات التي تشمل كل الأسرى بلا أدنى شعور بوازع من ضمير أو إنسانية، وقبل أيام استشهد محمد السباتين وعمره (21) عاماً.
وغالباً ما كان العدو يَتَعَمَّد الوصول بالأسرى إلى وضع صحي مُتدهور ثم تركهم يعانون حتى الوفاة. وأن يستشهد أسير أثناء الأَسْر أمر كان يَفترضُ أن يُثير المواقف الدولية، لكونه يمثل أبلغ صور الانتهاك للإنسانية، إلا أن الأمر لا يزال يُراوح مربع البيانات، إلى أن بلغ عدد من استشهد في سجون العدو من الأسرى الفلسطينيين خلال الحرب العدوانية الشعواء على غزة أكثر من (100) شهيد في ظروف اعتقال قاسية، وانتهاكات طبية، وتعذيب، وسوء معاملة، وتجويع، وحرمان من العلاج. وكان تقرير آخر صادر عن منظمة "أطباء من أجل حقوق الإنسان" في نوفمبر/تشرين الثاني، أفاد باستشهاد 98 فلسطينياً في الحجز الإسرائيلي منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023. وهناك اليوم في سجون العدو أكثر من 9300 معتقل، بينهم نحو 350 طفلاً و50 أسيرة.
الانتهاك والقتل البطيء والانحطاط في اتباع أقسى السياسات أمر يحدث أمام العالم، ويُفاخر به قادة الكيان أيضاً علناً، في ظِلِّ غياب الرقابة الدولية وصمت المؤسسات الأممية والحقوقية. وفي وقت سابق افتخر الصهيوني "إيتمار بن غفير" الذي يُعرف بوزير الأمن القومي في الكيان، افتخر علناً بتقليصه حِصَص الطعام، وتشديده الظروف على الأسرى الفلسطينيين.
تمرَّس العدو منذ عقود على الابتكار في تعذيب الأسرى الفلسطينيين نفسياً وبَدَنياً، واكتسب الخبرة التي ربما يتفوق بها عمَّن سواه، ومَرَدُّ تفوُّقه هو تحلُّله من كل شيء، ليبدو -في سلوكه- أقرب إلى الحيوان عند افتراس فريسته. وعند العودة إلى ماضي العدو في هذا الملف نجد نفس المشهد يتكرر مع اختلاف تطور أشكال الانتهاك لحقوق الأسرى. نجد كل أشكال التعذيب بما فيها تلك التي تبدو بسيطة في شكلها، لكنها فظيعة في وَقْعِهَا، فضلاً عن كون اللجوء لاستخدامها دليلاً آخر على التركيبة النفسية المختلة للعدو.
في العام 2002 -أي قبل أكثر من عقدين من الزمن- قدَّم المحامي فارس أبو حسن (المدير الإقليمي لمنظمة التضامن الدولي لحقوق الإنسان التي يقع مقرها في واشنطن، والمتخصص في الدفاع عن الأسرى الفلسطينيين) في مقابلة تلفزيونية وصفاً قاتماً لما يعيشه الأسير الفلسطيني في سجون العدو الإسرائيلي من حالة امتهان وإذلال، ناهيك عن أشكال عديدة من التعذيب. حينها كان يُرَدِّدُ أيضاً الحديث عن مستوى التجاوز الذي كان يمارسه العدو الصهيوني في التعامل مع الأسرى، لكنه -مع الخنوع العالمي للعصى الأمريكية- لم يتعرض لأيّ مساءلة أو عقوبة أو حتى ضغط للتوقف عن هذا الانتهاك للقوانين. وقال المحامي أبو حسن في ذاك الحين “إسرائيل تضرب في تعاملها مع الأسرى عرض الحائط بكل المواثيق والأعراف الدولية وحقوق الإنسان، مبادئ حقوق الإنسان؟! لا.. لا تعير انتباهاً لأي انتقاد دولي حول ما يتعرض له الأسرى في السجون الإسرائيلية".