حين يُختزل الوطن إلى خرائطَ للبيع، ويُختصر الدين في فتاوى معلبة، يفقد الكلام طهره، وتغدو المنابر سلالًا للتضليل. لكنّ اليمن، الذي لم يساوم على كرامته، وفلسطين، التي ما زالت تقاتل بجراحها، يشهدان أن الوطن ليس جدارًا يُؤجّر، ولا الدين لافتة تُرفع في سوق المنافع. في زمنٍ كهذا، لا يبقى من الحقيقة سوى ما يخطّه الوعي، وترتّله المواقف.
الوطن، في جوهره، هو هُوية ومبدأ وانتماء؛ لا يُقاس بثرواته ولا بموقعه الجغرافي، بل بموقفه في لحظة الحق. ولهذا نرى كيف تحوّلت أوطان كانت يومًا تحمل راية العروبة إلى أدوات وظيفية في يد المستعمر.
باعوا سيادتهم، خانوا قضاياهم، وتحالفوا مع عدو الأُمَّــة، حتى صارت عواصمهم منصاتٍ لحرب إعلامية ضد المقاومة، وممراتٍ آمنةً للعدو في قصف أطفال غزة.
أما الدين، الذي يُفترَضُ أن يكون مرجعيةً للحق، فقد أصبح عند بعضهم شعارًا جوفاء، يُستخدم لتبرير الطغيان أَو لتخدير الشعوب. صعد بعضُ "العلماء" إلى المنابر ليبرّروا القتل، ولبس بعض الحكّام عباءة الورع وهم يعقدون صفقات التطبيع مع من دنّسوا مقدسات الأُمَّــة. وهذا هو التزوير الأعظم: أن يُستخدم الدين في خدمة الظلم، وأن يُحاصر صوت الحق باسم "الوسطية"، ويُمنع دعم المقاومة باسم "فقه الطاعة".
في هذا المشهد المتشظي، تبقى صنعاءُ واحدةً من المدن القليلة التي لم تسقط في هذا الفخ. فاليمن، رغم كُـلّ أوجاعه، لم يتعامل مع الوطن كصندقة، بل كقضيةٍ أكبر من الحدود وأكثر عمقًا من التحالفات. لم يساوم على كرامته، ولم يبدّل موقفه من فلسطين، رغم كُـلّ الضغوط، لأنه وطنٌ يحمل في قلبه مبدأ، وفي ذاكرته تاريخ المجاهدين، وفي وجدانه وعيٌ لا يمكن شراؤه.
واليمن، كذلك، لم يُحوِّل الدين إلى بضاعة، بل ظل منطلقه الإيماني هو البُوصلة: الوقوف مع المظلوم، والرفض المطلق للهيمنة الصهيونية، والتصدي لكل أدوات التخاذل من الداخل والخارج. خطابه الديني لم يكن لاهوتيًّا منعزلًا، بل متجذرًا في الواقع، متصلًا بجراح الأُمَّــة، ومرتبطًا بمشروعها التحرّري.
من لا يرى الوطن إلا كصفقة، سيفرّط به في أول مزاد، ومن لا يرى الدين إلا كوسيلة، سيستخدمه لتبرير كُـلّ خيانة. أما الشعوب الحقيقية، فهي التي تفهم أن الأوطان تُبنى بالمواقف، لا بالمناقصات، وأن الدين هو العهد الذي لا يُنقض، لا المصطلح الذي يُعدّل حسب السوق.
ليس غريبًا اليوم أن نرى من يتحدث عن "الوطنية" يفتح قواعده العسكرية للعدو، ولا عجب أن نسمع من يتحدث عن "الإسلام المعتدل"، وهو يمنع حتى الدعاء للمقاومة الفلسطينية. هذا هو زمن التناقض، زمن الارتزاق، زمن الصناديق الفارغة والفتاوى المدفوعة الثمن.
ما يجب أن يُقال بصراحة، هو أن وعيَ الشعوب لا يُخدع طويلًا، وأن من يعتبر الوطن محطةً مؤقتة، سينتهي في مزابل التاريخ، ومن يبيع الدين، سيجد نفسه محرومًا من بركته في الدنيا والآخرة.
نحن بحاجة إلى أن نعيدَ تعريف الوطن، ونسترجع مكانة الدين. أن نعيد للهُوية معناها، وللعقيدة عمقها، وللأوطان قدسيتها، بعيدًا عن كُـلّ هذا الزيف المستورد.
الوطن ليس صندقة، بل هو بيتك الحقيقي الذي تدافع عنه ولو كنتَ جائعًا.
والدين ليس بضاعة، بل هو وعدك الصادق مع الله أن لا تركع إلا له، وأن لا تبيع موقفك مهما كان الثمن.