موقع أنصار الله . تحليل | أنس القاضي 

جاء العدوان الصهيوني على إيران في 13 يونيو، ثم العدوان الأمريكي المباشر في 22 يونيو، في سياق تاريخي طويل من الاعتداءات الاستعمارية والصهيونية لإخضاع دول المنطقة وشعوبها، فالولايات المتحدة والكيان الصهيوني أرادا أن يحلا محل الاستعمار القديم البريطاني الفرنسي الذي سقط في خمسينيات وستينيات القرن الماضي بفضل حركة التحرر الوطنية في المنطقة العربية الإسلامية الإفريقية منطقة غرب آسيا وشمال إفريقيا التي يطلق عليها "الشرق الأوسط".

من حيث الجوهر فالعدوان المشترك كان يقصد تحقيق هذا الهدف، أي تحويل إيران إلى مُستعمرة جديدة خاضعة للهيمنة الأمريكية الصهيونية. غير أن ما لم تستوعبه الولايات المتحدة والكيان الصهيوني أن هذا العدوان جاء في فترة ضعف نظام الأحادية القطبية وانحسار أمريكا ونزوع شعوب المنطقة والعالم إلى المقاومة والتحرر الوطنية وصون السيادة الوطنية.

البُعد المتعلق بإسقاط النظام الوطني الإيراني، وفرض مشاريع الهيمنة والاخضاع والنهب الاستعماري هو محرك العدوان الجوهري، وما تبقى من تفاصيل لماذا العدوان اليوم وليس الأمس ولماذا اندفع الصهيوني أولاً بدعم أمريكي غير مباشر، وكيف تصرف الأمريكي في فترة 10 أيام وكيف قام بالعدوان المباشر، هذه القضايا تحكمها تطورات الصراع الاستراتيجي في المنطقة.

التدخلات الأمريكية الصهيونية في المنطقة قبل العدوان على إيران

جاء العدوان الإسرائيلي الصهيوني والأمريكي على إيران، بعد تدمير الغربيين والصهاينة وأدواتهم الإرهابية لدول المنطقة، الجمهوريات الثورية التي نشأت على إرث حركة التحرر الوطني، مثل العراق وليبيا وسوريا واليمن الديمقراطية والجزائر وإثيوبيا والسودان والصومال، وكل هذه الدول كانت ترفع شعارات التحرر والوحدة والاشتراكية ومعاداة الاستعمار والصهيونية.

وكذلك بعد ضرب فصائل حركة التحرر الوطنية العربية: القومية واليسارية، وتمكين الحركات الإسلامية السلفية و"الجهادية" التكفيرية والإخوانية، من الهيمنة على مجتمعات المنطقة وحكوماتها وتفجير الصراعات الأهلية، والمحاولات لا زالت قائمة لتدمير جيش مصر، أما مصر كدولة تقدمية مناهضة للاستعمار فقط سقطت إبان حكم أنور السادات.

العدوان الأمريكي الإسرائيلي اليوم استمرار لمحاولات إرجاع إيران إلى زمن إيران الملكية في ظل حكم الشاه، حين كانت مستعمرة، وشرطي المنطقة، أداة غربية صهيونية لإخضاع الدول العربية للغرب، وحين كانت ثروات إيران ذاتها نهباً لأمريكا وبريطانيا.

ما يجمع بين الكيان الصهيوني والولايات المتحدة في هذا العدوان هو رفض أي إمكانية لنشوء قوة مستقلة سياسياً، متقدمة علمياً وتقنياً، ومرتبطة بمحور دولي مغاير للغرب، سواء كان هذا المحور روسيا-الصين أو أمريكا اللاتينية. إن المعرفة النووية، حتى وإن كانت سلمية، تُعد في ميزان القوى الإمبريالية جريمة تستوجب العقاب إن خرجت عن منظومة السوق الغربية وهيمنتها التقنية. فالمعرفة في يد المستعمَر هي تهديد مباشر لبنية السيطرة الرأسمالية العالمية، لأنها تتيح إمكانية السيادة على القرار والثروة، وفتح أفق التحرر الفعلي.

العدوان الإسرائيلي

على المستوى اليومي التي خلقته الظروف الراهنة في المنطقة منذ السابع من أكتوبر 2023م، والذي لا يتناقض مع المستوى الاستراتيجي والتناقض بين الاستعمار وحركة التحرر الوطنية، على هذا المستوى  اليومي هدف الكيان الصهيوني من عدوانه على إيران إلى تصدير الأزمة السياسية الخانقة التي تواجهها "حكومة" نتنياهو، وتحويل الأنظار نحو تهديد خارجي وجودي.

 ومن جهة أخرى، مثلت هذه العملية محاولة استباقية لتعطيل أي تقدم نوعي في القدرات النووية والصاروخية الإيرانية، لاسيما في ظل القلق "الإسرائيلي" المتنامي من اقتراب إيران من عتبة التخصيب النووي الذي يسمح باستخدامات عسكرية، وما يمثله ذلك من تهديد محتمل لتفوق "إسرائيل" الاستراتيجي في المنطقة، وكانت محاولة جادة لإسقاط النظام الإيراني بعد لقاءات عديدة مع نجل الشاه.

أعادت "إسرائيل" عبر هذه الضربة إحياء عقيدة "الضربة الاستباقية"، التي شكّلت جوهر استراتيجيتها العسكرية في حرب حزيران/ يونيو 1967م، حين نجحت في تدمير سلاح الجو المصري بضربة واحدة قبل نشوب الحرب. وتجلى هذا المنطق في استهداف البنية التحتية الحيوية للبرنامج النووي الإيراني، ومنظومات الدفاع الجوي، ومراكز القيادة، في محاولة لشلّ قدرة إيران على الرد السريع أو الفوري، وبالتالي فرض معادلة ردع جديدة تتيح لـ"إسرائيل" هامشاً أكبر من الحرية الميدانية.

إلا أن الرد الإيراني المفاجئ بعد امتصاص صدمة العدوان وصدمة الاختراق المحلي، هذا الدعم قام بكبح المشروع الإسرائيلي وأعاقه عن تنفذ الأهداف المُعلنة، بل دخل الإسرائيلي في حرب استنزاف عجز عن الاستمرار بها فاستنجد بالأمريكي الذي تدخل بعد 10 أيام من الاشتباك الإسرائيلي الإيراني.

العدوان الأمريكي

جاءت الضربة العدوانية الأمريكية بعد عشرة أيام من الضربات الإسرائيلية المتواصلة التي لم تفلح في تحقيق أهدافها ومن الرد الإيراني المدمر في عمق الاحتلال، والذي أظهر فشلاً إسرائيلياً في حسم المعركة.

جاء هذا العدوان المباشر ليعيد رسم معادلات الصراع في المنطقة؛ فالولايات المتحدة، التي طالما تجنبت المواجهة المباشرة مع إيران، انخرطت هذه المرة بعملية عسكرية ضد منشآت ذات طابع استراتيجي محصّن تحت الأرض، وفي توقيت بالغ الحساسية، حيث كانت طهران تشارك في مفاوضات نووية مباشرة مع الأوروبيين.

رفعت الولايات المتحدة الأمريكية أهدافا عديدة منها ما هو معلن مثل تدمير البرنامج النووي الإيراني أو تعطيله بشكل جذري، حيث قدّم ترامب الضربة على أنها نجاح عسكري نوعي أنهى قدرات إيران على تخصيب اليورانيوم، مُعلناً أن "فوردو انتهى"، ومشيراً إلى أن طهران لم تعد تشكل تهديداً نووياً.

وكذلك الهدف المعلن في دعم  الكيان الصهيوني وتأكيد التحالف الاستراتيجي معه؛ فقد جاءت الضربة العدوانية بعد فشل الكيان الصهيوني في تحقيق حسم عسكري، ما كشف عن هشاشة "الردع الإسرائيلي"، وخلق حاجة أمريكية لتأكيد الدعم الكامل لـ "تل أبيب" عبر التدخل المباشر.

كما هدفت الولايات المتحدة من عدوانها إلى إجبار إيران على العودة للمفاوضات بشروطها، حيث رُوّج للعملية كجزء من استراتيجية "العصا قبل الجزرة"، حيث أُعلن أن الهدف النهائي للضربة هو التفاوض، لكن بعد فرض الأمر الواقع من خلال استعراض القوة.

أما الأهداف الضمنية غير المُعلنة فهي استعادة الهيبة الأمريكية المتآكلة في المنطقة، بعد سنوات من الانسحاب التكتيكي، والهزائم غير المباشرة في أفغانستان، العراق، اليمن، إذ تسعى واشنطن لإعادة ترسيخ صورتها كقوة قادرة على المبادرة والهجوم، وليس فقط الدفاع.

جاءت الضربة الأمريكية في توقيت حساس على الصعيد الداخلي الأمريكي، حيث أراد ترامب استثمار مشهد "الردع الناجح" لرفع شعبيته واستعادة تأييد الأوساط المحافظة والداعمة لـ"إسرائيل"، وهي محاولة لإظهار صورة "الرئيس القوي" بعد تآكل صورته أمام الديمقراطيين وبعض رموز حزبه.

ولم تخل العملية من إرسال رسالة ردع مزدوجة لإيران وحلفائها (روسيا، الصين، محور المقاومة)، إذ لا تستهدف الضربة إيران فقط، بل تندرج ضمن رسائل استراتيجية أوسع تجاه القوى التي تحاول تقويض النظام الأمريكي الأحادي، خاصة في لحظة تبلور نظام عالمي متعدد الأقطاب.

غير أن المعطيات الأولية تفيد بإخلاء إيران للمنشآت المستهدفة وهي " نطنز، وأصفهان وفوردو"، وعدم تسجيل تلوث إشعاعي، ما يعني أن الضربة لم تحقق هدفها الاستراتيجي الرئيسي المتمثل في تدمير البرنامج النووي.

حققت الضربة نجاحاً تكتيكياً جزئياً من حيث استعراض القوة الجوية الأمريكية، واختبار قدرات الاختراق ضد التحصينات العميقة، وإصابة أجزاء غير جوهرية من البنية التحتية النووية، لكنها فشلت استراتيجياً في تدمير قدرات التخصيب أو إنتاج الوقود النووي، وإيقاف المسار النووي الإيراني، ونزع القرار السياسي الإيراني بشأن المشروع النووي.

أرادت الولايات المتحدة القول إنها قادرة على الوصول إلى قلب البرنامج النووي الإيراني في أي لحظة، وهو رسالة ردع أكثر منها ضربة حاسمة، وتعاملت إيران في المقابل مع الهجوم بهدوء محسوب، وأعلنت استمرار برنامجها، ما أحبط مفعول الرسالة الأمريكية.

فشل العدوان وانتصار إيران

تشير المعطيات إلى أن إيران لم تتأثر تقنياً إلى درجة التوقف عن الاستمرار في البرنامج النووي. بالطبع هناك آثار وربما تؤخره، إلا أن البرنامج النووي في ذاته لازال قائماً، وهو ما يدفع إيران لتعويض الخسائر عبر تسريع التخصيب، وتطوير برامجها الصاروخية والدفاعية.

وفي ظل انهيار الثقة بالغرب، ستسعى طهران لتعميق شراكتها الاستراتيجية مع موسكو وبكين، ضمن تحالف أوسع مضاد للهيمنة الأمريكية.

في المقابل هناك اهتزاز شديد في صورة الردع الإسرائيلية، فبعد 10 أيام من الضربات التي فشلت في شل القدرات الإيرانية، اضطر نتنياهو للجوء إلى واشنطن، ما يعني فشل "إسرائيل " في لعب دور القوة الإقليمية المستقلة، وبعد الضربة الأمريكية، لم تعد "إسرائيل" قادرة على المناورة بحرية، وسترتبط ردودها المستقبلية بقرار أمريكي أكثر من أي وقت مضى.

والولايات المتحدة التي عجزت في عدوانها عن تغيير موازين القوى، والتي كانت حريصة على عدم الدخول مع إيران في حرب مفتوحة، امتصت الرد الإيراني المدروس والمحدود في قاعدة العديد في قطر، ثم روجت للسلام ووقف إطلاق النار.

فمن الناحية الاستراتيجية، لازال النظام الوطني الإيراني قائماً ولم يسقط ولم يرجع الشاه ولا ظهر غيره، ولازالت السيادة الوطنية كاملة في إيران لم تحتل أراضيها، ولازالت القدرات النووية قائمة، ولازال البرنامج الصاروخي قائماً، ولازالت سياستها الخارجية المقاومة للإمبريالية والصهيونية والمنحازة للشرق والجنوب العالمي قائمة لم تتغير، من هذه الناحية الجوهرية فشل العدوان الإسرائيلي الأمريكي في تحقيق هدفه الذي نجح فيه في سوريا منذ أشهر.

من ناحية أخرى، فالعدوان الإسرائيلي الأمريكي كان مؤثراً ولم يكن مسرحية،  فقد خسرت إيران الصف القيادي الأول لقواتها المسلحة والأمن بمختلف تشكيلاتها، والصف الأول من كبار علماء الفيزياء النووية، وهي خسارة ليست بسيطة، وتعرضت بنيتها التحتية لدمار واسع، وتعرضت سمعة مؤسساتها الأمنية للضرر فقد ظهرت البلاد مكشوفة أمام الكيان من الداخل والخارج، وهذه الخسارة سوف تعيق وتائر تقدمها المرسومة سابقاً على الصعيد العسكري والمعرفي.

ومع ذلك فإن حجم الخسائر في هذه الحرب أمر يُمكن تعويضه وإعادة بناءه على المدى القصير والمتوسط، سواء العنصر البشري أو المادي، في ظل بقاء النظام الإيراني ذاته الذي كان مُهدداً بالإسقاط.

إن تماسك النظام الوطني ومؤسسات الدولة وعدم تفكيكها، هو ضمان إعادة البناء، فيما دولة كالعراق التي تعرضت لغزو أمريكي وعملية تفكيك لمؤسسات الدولة وللقوات المسلحة والأمن لم تستطع النهوض حتى الآن، وتفكيك النظام الإيراني هو مشروع الولايات المتحدة والكيان الصهيوني لكن القدرة على تنفيذه غير ممكنة واقعياً. وهكذا فقد انتصرت إيران على المستوى الاستراتيجي وإن كانت أُضعفت على المدى المنظور.