موقع أنصار الله . تحليل | أنس القاضي
في البدء كان الكيان الصهيوني مشروعاً غربياً يؤدي وظيفة مهمة ولازال مطلوباً منه تأدية هذه الوظيفة، وهي الحرب على حركة التحرر الوطنية العربية الإفريقية، وإخضاع هذه الدول للهيمنة الغربية، عبر آليات كثيرة منها الحرب العسكرية والاغتيالات وتدمير مراكز الأبحاث والمنشآت والأبحاث العلمية، والتطبيع، وزرع الشقاق بين هذه الدول، ودعم الجماعات الإرهابية، وغيرها من الآليات التي يعمل عليها الكيان الصهيوني حتى اليوم.
في مقابل هذا الدور يتلقى الكيان الصهيوني مساعدات مالية واقتصادية ومعرفية علمية وتقنية من الدول الغربية عموماً، ومن الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص، وبفضل هذا الدعم السخي يتفوق الكيان الصهيوني على كثير من الدول العربية المحيطة.
كما تلتزم الدول الغربية بالحماية العسكرية عن الكيان والدفاع عنه، وهذه الحماية تجلت بشكل رئيس في الحروب العربية الإسرائيلية في العدوان الثلاثي على مصر 1956م وفي نكسة حزيران 1967م وفي حرب أكتوبر 1973م، ودعم اجتياح بيروت عام 1982م وفي حرب تموز 2006م وبقية الحروب الصهيونية مع المقاومة في لبنان وفلسطين وصولاً إلى معركة سيف القدس، ومن ثم معركة طوفان الأقصى التي لازلت تداعياتها مستمرة في المنطقة.
الحماية في هذه اللحظات الفارقة جزء من الالتزامات الغربية والأمريكية للكيان الصهيوني. ومع مرور عقود من آخر حرب واسعة للكيان الصهيوني دخل فيها أكثر من طرف عربي في سبعينيات القرن الماضي، وانتصار الثورة الإسلامية في إيران 1979م وتنامي المقاومة في لبنان والانتفاضة والمقاومة في غزة، وصولاً إلى اليوم جرت تحولات أمنية واسعة، وهناك تراجع صهيوني واضح، فمن حرب النكسة التي احتل فيها الكيان الصهيوني الضفة الغربية وقطاع غزة وسينا والجولان، إلى حرب طوفان الأقصى التي عجز فيها عن إسقاط المقاومة المحاصرة في قطاع غزة، وقبلها اضطراره الانسحاب من جنوب لبنان وقطاع غزة والعجز عن مواصلة الاحتلال العسكري، التحولات العسكرية ومظاهر ضعف الكيان الصهيوني عن الفاعلية الميدانية واضحة، مع احتفاظه بقدرة تدميرية رأينها في غزة وجنوب لبنان، إلا أن فاعليتها الميدانية تتراجع.
بات من الملاحظ أن الكيان الصهيوني يَضعف من عقد لآخر ومن سنة لأخرى، وفي المقابل تنامي دول وفصائل المقاومة، هذا الواقع الجديد يجعل الكيان الصهيوني عاجزاً عن الاستمرار في تأدية الدور الوظيفي المطلوب منه، وباتت حمايته مكلفة بالنسبة للغرب والكيان الصهيوني في مقابل الخدمات التي يُقدمها، والكيان الصهيوني بوصفه جزء من المنظومة الغربية فهو يضعف مع ضعفها النسبي في إطار التحولات العالمية.
مثّل الدعم الأمريكي غير المشروط لـ"إسرائيل" ثابتاً استراتيجياً في السياسة الخارجية الأمريكية، بغض النظر عن تغيّر الإدارات أو السياقات الدولية. إلا أن عهد ترامب، خصوصاً بعد عودته إلى الحكم في دورة جديدة، كشف عن تصاعد التناقضات بين هذا الدعم الممنوح دون سقف، وبين التحولات الحاصلة ميدانياً واستراتيجياً في بنية الصراع العربي-الإسرائيلي، وخاصة مع بروز "محور المقاومة" كفاعل إقليمي متعدد الأطراف والقدرات. وقد أدّى هذا التناقض إلى تآكل المصداقية الأمريكية، وتضاؤل قدرتها على التأثير في قواعد الاشتباك أو صياغة تسويات سياسية.
عجزت الضربات الأمريكية العدوانية في اليمن عن الحد من قدرات القوات المسلحة اليمنية، بل على العكس، أظهرت محدودية فعالية القوة الأمريكية في ضبط المجال الإقليمي، ما عزز من صورة المقاومة كقوة صاعدة تفرض وقائعها. وفي هذا السياق، جاء استهداف صنعاء مطار "بن غوريون" -4 مايو 2025م- كضربة صادمة، كسرت الخطاب الإسرائيلي القائم على الحماية الأمريكية، وأربكت المؤسسات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية، في ظل عجز واشنطن عن تقديم رد نوعي، واكتفائها بردود فعل رمزية أو عقابية غير مؤثرة، لتختم هذا المسار باتفاق مع صنعاء لوقف إطلاق النار والتركيز على حماية سفنها في البحر الأحمر على حساب "إسرائيل".
وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لم تعلن عن مشاركتها العسكرية المباشرة في العدوان الصهيوني على إيران، إلا أن المؤشرات كافة تدل على وجود تنسيق عميق ومسبق بين واشنطن و"تل أبيب". فقد تم تنفيذ الضربة في ظل دعم استخباراتي أمريكي، عبر الأقمار الصناعية والطائرات المسيرة، كما سُجل نشاط غير اعتيادي في غرف العمليات المرتبطة بالقواعد الأمريكية في الخليج، إضافة إلى إجلاء جزئي لرعايا أمريكيين من بعض السفارات. وقد أكد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في تصريح له أن طهران تلقت إنذاراً منذ ستين يوماً، ومؤخراً دعا ترامب سكان طهران إلى إخلاء العاصمة كنوع من الضغط، وهو ما يعزز فرضية أن العدوان الإسرائيلي كان جزءاً من استراتيجية أمريكية أوسع تهدف إلى دفع إيران نحو تقديم تنازلات في الملف النووي.
الدعم الأمريكي بهذا القدر رغم أهميته إلا أنه ليس حاسماً في حماية الكيان أو تحقيق الانتصار لنتنياهو، ولكن بعد 10 أيام من الحرب اضطرت الولايات المتحدة الأمريكية إلى التدخل المباشر فقامت بعملية محدودة استهدفت ثلاث منشآت نووية إيرانية "نطنز، وأصفهان، وفوردو"، ومع ذلك فقد كانت الضربات استعراضية ولم تدمر البرنامج النووي الإيراني فهو أكثر من مجرد منشأة.
كان التدخل الأمريكي المباشر محسوب ومحدود دون الاتجاه نحو حرب شاملة، وجاء الرد الإيراني على العدوان الأمريكي باستهداف قاعدة العديد الجوية في قطر القاعدة الأكبر في المنطقة والتي تعد مقراً لقيادة المنطقة المركزية الأمريكية لإدارة ومتابعة النشاط العسكري الأمريكي في المنطقة، إذاً فقد كان التدخل الأمريكي محدوداً ولم تعد الولايات المتحدة قادرة على الغزو كما فعلت سابقاً في أفغانستان والعراق.
تعاملت إدارة ترامب مع هذه التطورات المتعلقة بالصراع الإسرائيلي مع دول وفصائل محور المقاومة بسياسات متناقضة؛ فهي من جهة ترفع من سقف دعمها لإسرائيل دبلوماسياً وعسكرياً وتؤيد توسيع العدوان (في الحالة الإيرانية الأخيرة قامت بقصف شكلي)، لكنها من جهة أخرى، تُبدي تردداً في الانخراط في حروب مفتوحة، كما في مواجهة اليمن، أو الدخول في صدام مباشر مع إيران وحرب مفتوحة، وهو ما يوحي لحلفاء واشنطن ولإسرائيل نفسها، بأن هذا الدعم قد لا يتجاوز حدود التصريحات أو الضربات المحدودة، دون استراتيجية مستدامة.
هذا التناقض أفرز أزمة لدى صناع القرار في "تل أبيب"، حيث باتوا أمام خيارين إما التعويل على دعم أمريكي محدود لا يُغير موازين القوى، أو الذهاب إلى تصعيد منفرد في الإقليم وهو ما قام به نتنياهو مع تتصاعد الانتقادات الداخلية لحكومة بنيامين نتنياهو في ظل فشلها المتراكم في غزة، وحاول توريط أمريكا في حرب مفتوحة مع إيران لكنه فشل، القرار الذي اتخذه نتنياهو بالعدوان على إيران منفرداً ومحاولة جر الولايات المتحدة، مغامرة كبيرة كان قرار نتنياهو ومغامرة التحالف السياسي الحاكم، فيما التقديرات الأمنية الإسرائيلية من قبل العدوان الصهيوني على إيران كانت تُطالب بإعادة تقييم العلاقة مع واشنطن، أو على الأقل تقليل الاعتماد عليها في إدارة الصراع مع قوى المقاومة، وهذا التوجه الإسرائيلي سوف يتعزز.
الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل لم يعد ضماناً كافياً للردع أو الانتصار، بل بات عبئاً استراتيجياً يزيد من عزلة واشنطن، ويعزز من مشروعية محور المقاومة في الشارع العربي والإسلامي. ومع تنامي قدرات هذا المحور، وتوسعه الجغرافي من خليج هرمز إلى غزة على البحر الأبيض وصولاً إلى البحر الأحمر واليمن، باتت المعادلة الجديدة تفرض على الولايات المتحدة إما مراجعة موقفها في الدعم العسكري للكيان في حرب الإبادة والعدوان على إيران، أو المضي قدماً في دعمٍ عسكري وسياسي لا يُفضي إلى النتائج التي يرجوها الصهاينة، بل إلى تصعيد مفتوح يُضعف الهيمنة الأمريكية على المدى البعيد.
إن أزمة الهيمنة الأمريكية ليست عابرة، بل تعكس حدود المنظومة الرأسمالية ذاتها في القدرة على إنتاج السيطرة دون مقاومة؛ فالأطراف لم تعد فقط ساحة للتدخلات، بل أصبحت فاعلاً تاريخياً في قلب التغيير، يملك القدرة على فرض وقائع جديدة، والتحرر النسبي من قيود المركز، خاصة إذا أحسنت هذه الدول التقاط لحظة الانكشاف في المركز وتوظيفها لبناء سياسات خارجية مستقلة ومشاريع تنموية ذاتية.
وهذا ليس سوى مقدمات لبداية طور انتقالي في النظام العالمي، يُعاد فيه تعريف مفاهيم القوة، والسيادة، والعلاقات الدولية، بعيداً عن القطبية الأحادية التي فرضتها الولايات المتحدة طوال العقود الماضية.