|| صحافة ||

في شارع ترابي في منطقة السودانية، على شاطيء بحر شمال قطاع غزة، تسابق المئات نحو شاحنات مساعدات تُركت في العراء من دون إشراف أو حراسة. صرخات تتعالى، أجساد تتدافع، أطفال يسقطون تحت الأقدام، وآخرون يتشبثون بأكياس الطحين كمن ينتزع حقه من بين فكي الموت. وفجأة، دوى إطلاق نار. سقط شاب ثلاثيني أرضاً، فيما فرّ من تبقّى بحمولتهم... أو بحياتهم.

هذا الحدث ليس استثناءً، بل هو مشهد يومي في قطاع غزة المنهك، حيث لا يكفي الطعام، ولا تنجح المؤسسات الدولية في توزيع الغذاء على الجميع، ولا تترك إسرائيل أي فرصة لخلق نظام.

في ظل هذا الانهيار، يظهر طرف ثالث على الساحة: «مؤسسة غزة الإنسانية» التي تديرها إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية، وتُسوَّق كمصدر بديل للمساعدات، لكنها، في الحقيقة، مصيدة موت قتلت نحو 800 فلسطيني منذ إطلاقها في 27 أيار.

من يقف خلف هذه الفوضى؟ ولماذا تُفتح شهية النهب كلما اقتربت شاحنة إغاثة؟ لماذا تحرص إسرائيل على إسقاط النظام الإغاثي القائم لتصبح وحدها المانح والمتحكم؟

 

شاحنات بلا حماية

من بين أولئك الذين اضطروا لاعتراض طريق شاحنات الإغاثة، كان عبد الحميد محيسن، وهو أب لأربعة أطفال، وجد نفسه مدفوعاً بفعلٍ لم يتوقع يوماً أن يُقدم عليه.

يقول عبد الحميد، لـ«الأخبار»، بينما كان يحمل كيس دقيق على ظهره بعد أن انتزعه من على الشاحنة: «لقد انتظرتُ دوري للحصول على مساعدة إغاثية من المؤسسات الدولية، مثل برنامج الغذاء العالمي ولكن دون فائدة. أيقنت أنني لن أحصل على شيء طالما تُترك شاحنات المساعدات بلا تنظيم أو حماية».

لم يبق محيسن مكتوف الأيدي بل قرّر المشاركة في انتزاع الغذاء من على ظهر الشاحنات التي تدخل شمال القطاع من منطقة زكيم العسكرية، ودافعه جوع أطفاله الذين لم يتذوقوا الخبز منذ أسابيع.

يضيف محيسن: «لست لصاً، لكن أطفالي جائعون ويحتاجون إلى الدقيق. في مرة سابقة حصلت على بضع كيلوات من السكر والأرز، واليوم حصلت على الدقيق. لا أستطيع أن أتخيل فرحة أطفالي عندما أعود إليهم ومعي غذاؤهم».

لا يُخفي محيسن، في الوقت نفسه، استياءه من فئة وصفها بـ«المرتزقة»، ممن يستغلون الفوضى لنهب المساعدات وبيعها لاحقاً بأسعار خيالية. ويقول: «هناك من ينهب بهدف تحقيق الربح فقط. كيلو الدقيق يُباع الآن بنحو 18 دولاراً، بعدما كان سعره، قبل الحرب، لا يتجاوز دولاراً واحداً. هؤلاء لا يسرقون بدافع الحاجة، بل بدافع الاستغلال».

 

«هندسة المجاعة»

داخل خيمة متهالكة في حي النصر غرب مدينة غزة، جلست أم محمد زياد، وهي أرملة في الأربعينات من عمرها، تضم أطفالها الثلاثة حولها، وتراقبهم وهم ينامون دون عشاء للّيلة الثالثة على التوالي. كانت دائماً ترفض فكرة التوجه إلى ما يُعرف بـ«مراكز مؤسسة غزة الإنسانية»، تلك التي يشرف عليها الاحتلال، لكنها اليوم بدأت تفكر في الأمر بجدية.

تقول أم محمد، لـ«الأخبار»، وقد بدت عليها علامات الهزال: «منذ أن منعت إسرائيل دخول المساعدات والغذاء إلى غزة، مطلع مارس الماضي، لم تصلني أي مساعدة. ثم أصبحت كل شاحنة تمر تُنهب قبل أن نعرف بوجودها أصلاً. صار الأمر طبيعياً، وباتت الفوضى جزءاً من الواقع. المجاعة تزداد، وكلما ازداد النهب، قلّ الطعام، وهذا تماماً ما يريده نتنياهو».

وتضيف: «كنت أرفض تماماً الذهاب إلى مراكز مؤسسة غزة الإنسانية التي تروج لها إسرائيل، كبديل عن المنظمات الإغاثية الدولية، لأن الناس يُقتلون هناك يومياً، لكنّني بدأت أفكر في الأمر مؤخراً. أطفالي جائعون، وأنا لا أملك شيئاً. هذه ليست مراكز إنسانية، كما يُروّج لها، بل هي مراكز أمنية، بكل ما للكلمة من معنى، لكنها الآن الخيار الوحيد بفعل الجوع».

تعتقد أم محمد أن ما يجري ليس مجرد إهمال في التوزيع، بل هي «سياسة ممنهجة لصناعة المجاعة، بحيث لا يبقى أمام الفلسطيني الجائع إلا أن يطرق بوابة القاتل ليأخذ طعامه».

وتتابع: «نتنياهو لا يريدنا أن نأكل، إلا من يده. يريد أن يلغي كل المؤسسات الدولية، وأن يجعلنا نركض خلف مؤسساته الأمنية التي يُقتل أبناؤنا عند بواباتها».

 

إدارة الفوضى

من ناحيته، يؤكد مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي في غزة، ، أكد إسماعيل الثوابتة، أن الاحتلال الإسرائيلي يتعمّد نشر الفوضى في قطاع غزة عبر ضرب منظومة المساعدات الإنسانية، ومنع الجهات المحلية والدولية من القيام بدورها في تنظيم وتوزيع الإغاثة على نحو منظم.

ويقول الثوابتة لـ«الأخبار»، إن الاحتلال «يمنع منذ بداية الحرب الكوادر الحكومية من مرافقة قوافل المساعدات، ويحول دون وصولها إلى مخازن المؤسسات الدولية لتجهيزها وتوزيعها بشكل منظم»، لافتاً إلى أن «هذا الإجراء المقصود أدى إلى تحويل المساعدات إلى مادة للنهب والاقتتال بين الجائعين، وفتح الباب أمام فئات خارجة عن القانون لاستغلال حاجة الناس».

ويوضح الثوابتة أن «المشهد الذي يراه العالم اليوم من فوضى في توزيع المساعدات ليس عشوائياً أو ناتجاً عن انهيار ذاتي، بل هو جزء من سياسة إسرائيلية مدروسة تهدف إلى خلق بيئة من الفوضى والانقسام داخل المجتمع الفلسطيني، وإضعاف ثقة الناس بالمؤسسات الإنسانية الدولية».

ويُضيف: «إسرائيل لا تريد نظاماً يُنظم توزيع الغذاء، بل تسعى إلى تفكيك النظام، لتظهر لاحقاً كأنها البديل الوحيد عبر ما يُسمى بمؤسسة غزة الإنسانية، التي حصدت أرواح مئات المدنيين تحت أعين جنود الاحتلال».

ويشدّد الثوابتة على أن الاحتلال يحاول، من خلال هذا الواقع الجديد، «فرض معادلة قسرية تقول إن من يريد أن يأكل عليه أن يذهب إلى مؤسسة تشرف عليها إسرائيل وتفتح بواباتها تحت تهديد النار»، مؤكداً أن هذا التوجه «يهدف في جوهره إلى إقصاء المؤسسات الإنسانية الدولية، وتحويل غزة إلى ساحة إغاثة تديرها إسرائيل وحدها، بعيداً عن أي مرجعية دولية أو قانونية».

 

الاخبار اللبنانية: عبد الله يونس