في قطاعٍ لا تتجاوز مساحته 365 كيلومترًا مربعًا، تُطوى حياة أكثر من مليوني إنسان تحت ركام الحصار والموت والجوع. غزة اليوم ليست فقط ساحة حرب، بل مقبرة مفتوحة يسكنها أحياء بلا روح، يتنفسون الألم، ويقتاتون الذكرى، ويعدّون الدقائق الباقية على ما تبقى من أعمارهم.
المرضى يموتون أمام أعين ذويهم لعدم توفر الأدوية، والجرحى ينزفون حتى الموت لغياب المستشفيات، والمرض ينتشر في الأجساد النحيلة بصمت قاتل.
في مخيمات اللجوء التي تحوّلت إلى مقابر جماعية، يصطف الأطفال بأجسادهم الهزيلة حول بقايا القدور الفارغة. لا حليب، ولا خبز، ولا ماء نظيف. كل ما لديهم دموع الأمهات وأصوات الانفجارات وهدير الطائرات في السماء. عندما تسأل طفل من غزة عن أمنيته، يجيب ببساطة: "قطعة خبز"، أي زمن هذا الذي تحوّلت فيه كسرة الخبز إلى حلم؟ وأي ضمير عالمي هذا الذي يرى الأطفال ينهشهم الجوع ولا يرتجف؟
ما يحدث في غزة ليس فقط كارثة إنسانية، بل إهانة للبشرية جمعاء. حين تُجبر النساء على دفن أبنائهن بأيديهن، ويضطر الآباء لاختيار من يُعالج ومن يُترك ليموت، نكون قد تجاوزنا حدود الحروب إلى أعماق الجحيم.
هذا ليس نداء استغاثة، بل صرخة من قلوب احترقت، من أمعاء خاوية، من أناس لم يطلبوا سوى أن يعيشوا بكرامة. غزة اليوم لا تطلب الشفقة، بل الكرامة. لا تنتظر دموع المتضامنين، بل أفعال من يملكون القرار. فإلى متى يظل العالم يتفرج؟ وإلى متى يُترك الموت يحكم غزة باسم الصمت؟.
وزارة الصحة الفلسطينية أعلنت ، اليوم الجمعة، تسجيل 9 حالات وفاة جديدة بسبب المجاعة وسوء التغذية خلال الـ24 ساعة الماضية في قطاع غزة. وأكدت أن ذلك رفع العدد الإجمالي لوفيات المجاعة وسوء التغذية إلى 122 حالة وفاة، من بينهم 83 طفلًا.
وأكدت الوزارة وصول 89 شهيدًا (منهم 9 شهداء تم انتشالهم) و467 إصابة إلى مستشفيات قطاع غزة خلال الـ24 ساعة الماضية؛ جراء العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة. وقالت إن 9 شهداء وأكثر من 45 إصابة، وصلوا إلى المستشفيات خلال الـ24 ساعة الماضية من شهداء المساعدات؛ ليرتفع إجمالي شهداء لقمة العيش ممن وصلوا المستشفيات إلى 1,092 شهيدًا وأكثر من 7,320 إصابة.
وأشارت إلى أن حصيلة الشهداء والإصابات منذ 18 مارس 2025 حتى اليوم بلغت: 8,527 شهيدًا و 31,924 إصابة. وبذلك، ارتفعت حصيلة العدوان الإسرائيلي إلى 59,676 شهيدًا و 143,965 إصابة منذ السابع من أكتوبر للعام 2023م.
في الأثناء، قال رئيس شبكة المنظمات الأهلية بغزة أمجد الشوا: إن كل لحظة تمر على الأطفال المصابين بسوء التغذية تفاقم الخطر على أرواحهم. من جانبها، قالت اللجنة الدولية للإنقاذ: إنها تشعر بالفزع إزاء التقارير عن وفاة الأطفال والرضع جوعاً في قطاع غزة.
"أنا مش خايف من الموت... أنا خايف أموت وأنا جوعان"، بهذه الكلمات الموجعة تسمع حديث نساء غزة من تحت خيمةٍ مهترئة نُصبت فوق ركام بيت دمرته آلة القتل الصهيونية.
منذ أن بدأ الحصار الخانق على غزة، تبعه العدوان العسكري المدمّر، لم يعد المواطن في غزة يطلب أكثر من رغيف خبز يسد به رمق أطفاله. في الأسواق، لا شيء يُشترى، حتى إن وُجد الطعام، فالأغلبية لا يملكون ثمنه. الجوع لم يعد حالة مؤقتة... بل صار أسلوب حياة، ويعلو صراخ الأطفال في الليل، لا من القصف هذه المرة، بل من ألم البطون الخاوية.
المكتب الإعلامي الحكومي في غزة طالب جميع دول العالم بكسر الحصار عن غزة فورا وفتح المعابر بشكل دائم، وإدخال حليب الأطفال والمساعدات وخاصة الطحين إلى أكثر من 2.4 مليون إنسان محاصر في القطاع. وأكد المكتب، أنه حتى الساعة الثالثة من مساء الخميس لم تدخل أية شاحنات مساعدات إلى قطاع غزة، وأن المجاعة تزداد حدتها وخطورتها وانتشارها في جميع المحافظات. وأضاف: “يأتي ذلك بالتزامن مع إغلاق الاحتلال لجميع المعابر بشكل كامل منذ 145 يوماً، ومنع إدخال حليب الأطفال والمساعدات الإنسانية.
وأوضح المكتب أن القطاع بحاجة ماسة إلى ما لا يقل عن 500,000 كيس طحين أسبوعياً لتجنّب الانهيار الإنساني الشامل.
إلى جانب الجوع، تنتشر الأمراض كالنار في الهشيم. المياه الملوّثة، وانعدام النظافة، وانهيار النظام الصحي كلّه، جعلت من كل بيت في غزة عيادة بلا طبيب، ومقبرة قبل الأوان.
في مستشفى الشفاء، يعمل الأطباء بأيديهم العارية، يخيّطون الجروح بقطع ملابس، ويصنعون الضمادات من أقمشة مستعملة، ويقررون من يُنقذون أولًا ومن يترك للموت، مضطرين لا أحرارًا.
كل شهيد في غزة ليس رقمًا في بيان، بل قصة عمر، وأحلام طفل، وصورة عائلة مزّقها الموت. خلف كل اسم ضحية، أم تبكي، وأب ينهار، وأخ يبحث بين الأنقاض عن بقايا أخيه.
برنامج الأغذية العالمي أكد أن جنود العدو الإسرائيلي فتحوا النار على الفلسطينيين المجوّعين خلال تجمعهم للحصول على المساعدات بشمال غزة، ما أدى لارتقاء وإصابة عدد كبير منهم.
وكالة غوث وتشغيل اللاجئين "الأونروا" أكدت تلقيها يوميًا رسائل استغاثة من زملائها في الأونروا الذين يتضورون جوعًا. في ظل عجزها عن الرد على مثل هذه الرسائل المليئة بالبؤس، ما يجعلها تشعر بالخزي والإحساس بعدم إمكانية فعل أي شي. مؤكدة أن كل هذا من صنع الإنسان، في ظل إفلات تام من العقاب. مشيرة إلى أن الطعام متوفر على بُعد بضعة كيلومترات فقط. والأونروا وحدها لديها مخزون كافٍ خارج غزة لتغطية احتياجات جميع السكان للأشهر الثلاثة القادمة، لكن لم يُسمح لها بإدخال أي مساعدات منذ الثاني من آذار/مارس. مؤكدة أن ما تحتاجه هو إرادة سياسية، معتبرة أن اللامبالاة تواطؤ.
وأشارت “الأونروا” إلى أن الحصار الذي يفرضه العدو على قطاع غزة منذ مارس/ آذار الماضي، تسبب بارتفاع أسعار المواد الغذائية أربعين ضعفاً.
مدير الإغاثة الطبية بغزة يؤكد أنه في حال عدم إدخال الغذاء إلى القطاع، فإن أرقاماً كبيرة ستكون في عداد الموتى، مضيفاً أن كثيرين يحاولون التبرع بالدم لكنهم لا يستطيعون بسبب سوء التغذية وفقر الدم.
الصحة العالمية أفادت بأن 94% من المنشآت الطبية في غزة تضررت بفعل حرب الإبادة، وبلدية غزة توقف عمل محطة التحلية الرئيسية في شمال مدينة غزة، لتدخل معها مدينة غزة مرحلة شديدة من العطش بعد توقف خط المياه عن العمل.
المقررة الأممية الخاصة بحقوق الإنسان بالأراضي الفلسطينية فرانشيسكا ألبانيز أكدت أن "إسرائيل" ترتكب إبادة جماعية بأبشع صورها في غزة. وأن الحديث لا يزال غائبا عن العدالة أو المساءلة التي لا يقبل السلام في "الشرق الأوسط" دونها.
من جانبه قال رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيزي، إنه يجب بذل كل جهد ممكن لحماية أرواح الأبرياء وإنهاء معاناة وجوع سكان غزة. ووصف ألبانيزي في بيان يوم الجمعة، الوضع بأنه “كارثة إنسانية”.
بينما تنزف غزة كل لحظة، يتبادل العالم بيانات "القلق العميق" المنظمات الإنسانية تصرخ دون جدوى، المواطن الغزّي لا يطلب ترف الحياة، بل يريد فقط أن يعيش دون أن يُهان، دون أن يُجوّع، دون أن يُقتل.
من بين الركام، من تحت الأنقاض، من خيام اللجوء والبرد والجوع، يصعد صوت الغزّي الذي لم يكسره القصف، لكنه اليوم يتألم من الجوع، والخذلان، والنسيان. غزة لا تريد الشفقة، بل الكرامة.
في غزة، لم يعد الصباح يعني النهوض إلى يوم جديد، بل بداية معركة جديدة للبقاء. معركة مع الجوع، مع الخوف، مع المرض، ومع قسوة العالم الصامت. الشوارع خالية إلا من ركام البيوت والأنقاض. الهواء ممتزج برائحة البارود والعفن، والسماء ملبّدة بدخان لا ينقشع.
تعيش العائلات الغزّية اليوم على ما تبقى من أملٍ مهترئ. لا شيء مؤكد، لا موعد للغذاء، ولا ضمانة للنجاة. الأسواق فارغة، والمخابز مغلقة، والطعام نادر لدرجة أن الناس يتقاسمون فتات الخبز وكأنهم يوزعون الذهب.
كل لحظة تمرّ قد تحمل قذيفة، وكل خيمة قد تكون هدفًا، وكل طفل قد يتحول إلى جثة هامدة في أي وقت. الخوف في غزة ليس شعورًا مؤقتًا، بل رفيق دائم.
في مستشفيات غزة، لا يسمع سوى صرخات الجرحى، وأنين المصابين، وبكاء الأطباء العاجزين. الدواء مفقود، والأجهزة متوقفة، والضمير العالمي غائب. الخيام امتلأت بالنازحين، والمخيمات تفيض بالبؤس. حتى المقابر لم تعد تتسع، فالجثث تُدفن على عجل، أحيانًا بلا أكفان، بلا وداع.
المدارس تحوّلت إلى ملاجئ، والمنازل إلى قبور. في كل مدرسة، تجلس عشرات العائلات تحت أسقف متهالكة، دون ماء، دون طعام، دون خصوصية. في كل بيت تهدّم، قصة انتهت، وعائلة تشردت، وطفولة احترقت.
غزة ليست حربًا فقط... إنها انهيار بطيء لحياة كاملة. ما يحدث في غزة ليس مجرد صراع عسكري، بل تدمير ممنهج للحياة.
غزة اليوم ليست مدينة تعيش الحرب... بل مدينة تُنحر كل لحظة، بينما يتفرّج العالم بصمت بارد. كل جدار مهدوم يروي قصة، وكل طفل جائع يلعن الحصار، وكل شهيد يُسقط ورقة من شجرة الإنسانية. إنها مأساة كاملة... لا تحتاج إلى شرح، بل إلى ضمير حي.
وفي الجانب الآخر، يقف مليارا مسلم، كأن على رؤوسهم الطير، يتابعون المجازر كأنها فيلم أكشن، يتبادلون المشاعر الباردة والمنشورات السخيفة، ثم ينامون نوماً عميقاً وكأن شيئًا لم يكن. أي أمة هذه؟ بل أي عار أعظم؟
أيها العرب، أيها المسلمون، لا تتحدثوا عن "عزّ الإسلام"، ولا عن "أمجاد الأمة"، فأنتم عارٌ على كل ما هو عزيز، وخنجر في ظهر كل ما هو مجيد. تملكون الجيوش، الثروات، القرار، الإعلام، المال، المليارات، لكنكم لا تملكون ذرة كرامة. أنتم لستم معذورون، أنتم خونة. أنتم لستم عاجزين، أنتم جبناء. أنتم لستم صامتين، بل شركاء في المجزرة.
حكام العرب والمسلمين اليوم مجرد خدم في بلاط الصهيونية. فتحوا أبوابهم للعدو، أبرموا الاتفاقيات، شاركوا في الحصار، ومنحوا الغطاء السياسي لذبح غزة. يتحدث أحدهم عن "القلق البالغ"، بينما يزوّد العدو بالوقود والغذاء. يستضيف آخر مؤتمرات "السلام"، فيما يتآمر على ما تبقى من سلاح للمقاومة تحمي به الكرامة.
أما الشعوب، فحدّث ولا حرج. جبنٌ، لامبالاة، خنوع، واكتفاء بالدعاء وكأن السماء تُفتَح لأمم نائمة.
أين الغضب في الميادين؟ أين الانتفاضات؟ أين دعوات الجهاد؟ يبكون على غزة من خلف الشاشات، ثم يذهبون لحفلاتهم، وأفلامهم، يشاركون صورة طفل مذبوح، ويكتبون "اللهم كن معهم". غزة وحدها في الميدان وهم عبء عليها. غزة تُقاتل نيابة عن شعوب الأمة، تموت نيابة عنها، تصمد بكرامة لا تعرف الشعوب طعمها.