موقع أنصار الله . تقرير | يحيى الشامي
لطالما ارتبط تاريخ الكيان الإسرائيلي بالبحر.. كان بوابة الوصول إلى ما سيمونه "أرض الميعاد". حلمٌ حمله الشذاذ القادمون على متن سفن، تجمع أشتاتاً من كل أصقاع العالم تحت وعد واحد: وطنٌ آمن، لا خوف فيه بعد اليوم.
اليوم، تتخذ علاقة اليهود المغتصبين بالبحر بُعداً معاكساً، فعبره يفرّ البعض من أرض الميعاد ذاتها إلى أوطانهم الأصلية التي قدموا منها أو إلى بلدان الغرب المتعاطفة معهم والمنكرة لحق أهل الحق الفلسطينيين، لم يَعد البحر طريقاً للقدوم، بل أصبح مساراً للهروب، فالصواريخ التي تنطلق من اليمن وإيران تحطّم بشكلٍ أكبر جدار الأمان النفسي الذي قام عليه الكيان وبنى عليه وجوده الباطل.
لم يعد المشهد في فلسطين المحتلة كما كان أو كما ظن وتصوّره المغتصبون المؤسسون الأوائل، فجدار "الأمن المطلق" الذي بنى عليه كيان العدو الإسرائيلي عقيدته الوجودية لعقود، يتآكل اليوم تحت وطأة صواريخ المقاومة الفلسطينية واللبنانية، ووصل إلى نقطة تحول حرجة مع دخول الصواريخ الإيرانية واليمنية على خط المواجهة، فالصواريخ حتى تلك التي يتم اعتراضها، لم تستهدف مواقع عسكرية فحسب، بل ضربت في الصميم الفكرة الأساسية التي قام عليها الكيان: "الملاذ الآمن لليهود". والنتيجة، مأزق وجودي عميق يتجلى في ظاهرتين متلازمتين: الهروب عبر البحر، ونزيف العقول الذي يهدد مستقبل الكيان برمته.
في تحول رمزي صارخ، أصبح البحر الذي حمل ذات يوم المهاجرين اليهود إلى "أرض الميعاد"، من شتى الأصقاع، بات اليوم هو طريق الفرار منها، ففي ميناء هرتسليا، الذي كان يرمز لحياة الترف والثراء، تصطف اليوم طوابير من الأسر اليهودية المحتلة بأمتعتهم، باحثين عن وجهة للهرب على متن يخت فاخر ينقلهم إلى قبرص ومنها إلى أوروبا.
بحسب تقارير لصحيفة "هآرتس" العبرية، تحول الميناء إلى محطة هروب مؤقتة، حيث تتراوح تكلفة الرحلة الواحدة بين 700 و 1700 دولار للشخص، حسب سرعة اليخت ورفاهيته، وتصل مدة الرحلة الواحدة عشرين ساعة الى قبرص، هذا المشهد، الذي تتجنب وسائل الإعلام الغربية تسليط الضوء عليه، يفضح حالة الهلع التي أصابت مجتمع المغتصبين، الذي بات يدرك أكثر يقيناً من أنه لا مكان آمن في الجغرافيا التي يحتلها، خاصة من مغتصبي المنطقة الاقتصادية الصناعية بين يافا وحيفا.
إذا كان فرار العائلات اليهودية يعكس انهيار الإحساس بالأمان الفوري، فإن "نزيف العقول" يمثل التهديد الاستراتيجي الأخطر على المدى الطويل بالنسبة لكيان العدو الإسرائيلي واقتصاده القائم على جيل من خبراء التكنولوجيا الدقيقة والصناعات التكنولوجية، يحذر خبراء ديموغرافيا صهاينة، مثل أرنون سوفر، من أن هجرة العلماء والأطباء والمهندسين لا تعني مجرد نزوح أفراد، بل هي فقدان للمواهب التي تشكل العمود الفقري لاقتصاد الكيان وقوته التكنولوجية والعسكرية.
هذا النزيف يمثل نتاجاً تراكمياً تمتد جذوره لما قبل عملية "طوفان الأقصى"، والتي كانت بوادره واضحة بسبب الانقسامات الداخلية العميقة التي أججها "الانقلاب القضائي" وصعود الصهيونية الدينية إلى سدة الحكم ودوائر القرار، وقد كشفت صحيفة "الغارديان" البريطانية عن قصص لعلمانيين إسرائيليين يخططون للرحيل، ليس فقط بسبب غياب الأمن، بل لأنهم لم يعودوا يرون مستقبلاً لأبنائهم في مجتمع يتجه بخطى متسارعة نحو نموذج "ديني" مغلق، حيث يرفض "الحريديم" الخدمة العسكرية، بينما يُجبر أبناء العلمانيين على خوض حروب لا تنتهي، وهو خلاف واعد بمستقبل قاتم ينتظر الكيان.
تؤكد البيانات الرسمية، رغم شحتها وتحفظ العدو الشديد عليها، حجم الأزمة، فبحسب القناة 12 الإسرائيلية، غادر نحو 30 ألف إسرائيلي البلاد بشكل دائم في غضون خمسة أشهر فقط بعد بدء الحرب، وتشير تقديرات إلى أن إجمالي المغادرين خلال عام 2024 قد يصل إلى 76 ألفاً.
في المقابل، تراجعت الهجرة "العودة" إلى الكيان بشكل حاد، وانخفض عدد اليهود المقيمين في الخارج الذين يختارون العودة بنسبة 20%، هذه الأرقام، التي يتجاهلها قادة حكومة العدو، مثل نتنياهو وبن غفير وسموتريتش، المنشغلين بالحديث عن تهجير الفلسطينيين، تكشف عن حقيقة مرة: إن مشروعهم الاستيطاني بات يطرد أبناءه، بينما يفشل في استقطاب المزيد.
إن المأزق الذي يعيشه كيان العدو الإسرائيلي اليوم هو مأزق مركب، فالصواريخ الدقيقة القادمة من إيران واليمن، إلى جانب صواريخ المقاومة في فلسطين ولبنان، نجحت في تحطيم عقيدة الردع وتثبيت معادلة جديدة: أن عمق الكيان أصبح ساحة وفيرة الأهداف، كفيلة بتحطيم أسطورة الأمان التي قام عليها الكيان، منذ يوم الطوفان الأول وإلى اليوم: لم يعد الكيان بمنأى عن الاستهداف.
هذا التهديد الخارجي فاقم أزمة داخلية كانت تختمر بالفعل، وكشف عن هشاشة "العقد الاجتماعي" الذي يربط المغتصبين بكيانهم. فالوعد بـ "الأمان" و"الازدهار" تبخر، ليحل محله واقع من الملاجئ، وصفارات الإنذار، والانقسامات المجتمعية والخلافات السياسية والقضائية، والهروب الصامت نحو شتات جديد واختياري، ما هيأ لأن يغدو التهديد وجودياً بالفعل، ينبع من صليات الصواريخ اليمنية وموجات الصواريخ الإيرانية فحسب، وينعكسُ اليوم من صالات المغادرة في المطارات وأرصفة اليخوت التي تحمل معها أحلاماً محطمة ومستقبل الكيان الزائل كما لم يكن يتصور هرتزل ولا بن غوريون ولا مائير.