تُعَدُّ التطورات الأخيرة على الساحة الاقتصادية العالمية من أهم المحاور التي تُبرز بداية اضمحلال هيمنة القطب الواحد، حيث تجسد تراجع قيمة الدولار الأمريكي وتصاعد جهود تدويل اليوان مسارات حاسمة لفهم ملامح المرحلة الجديدة من النظام الدولي. إن هذه المؤشرات الواضحة لا تقتصر على الأبعاد الاقتصادية فحسب، بل تمتد لتشمل تغيرات عميقة في موازين القوى على الصعيدين السياسي والعسكري، حيث يتشكل عالم أكثر تعددية وتوازناً في موازين الردع والصراعات.
ومن هنا، تتضح ملامح بزوغ فجر عالم جديد يتسم بتعدد الأقطاب، تتنازع فيه القوى المهيمنة على بسط نفوذها، في سياق يعكس تحولات استراتيجية تخدم مسارات القوى التي تتطلع إلى الصعود وتعزيز مكانتها في مواجهة الهيمنة الأمريكية، في معركة سياسية، واقتصادية، وعسكرية، تتعاظم وتتصاعد مع كل خطوة نحو تغير ملامح النظام العالمي.
لطالما كان الدولار الأمريكي الركيزة الأساسية للسيطرة الأمريكية على النظام المالي العالمي، مانحاً الولايات المتحدة "امتيازاً باهظاً" سمح لها بتمويل نفقاتها الضخمة -ديناً واقتراضاً- بأسعار فائدة تفضيلية. هذا الامتياز، الذي عزز هيمنة القطب الواحد، يبدو اليوم في طريقه إلى التآكل، وهو ما تتسق معه تحركات الأسواق الأخيرة.
فقد شهد مؤشر "بلومبرغ" للدولار انخفاضاً بنسبة 0.3%، ليصل إلى أدنى مستوياته منذ أبريل 2022، وسجلت العملة الأمريكية خسائر فادحة مقابل الين الياباني، وبلغت أدنى مستوياتها منذ نحو أربع سنوات أمام اليورو، كما واصلت أداءها الضعيف مقابل الجنيه الاسترليني، وسجلت أدنى مستوياتها منذ أكثر من عقد أمام الفرنك السويسري، وبحسب تقارير "FXNEWSTODAY"، فإن هذه التراجعات تمثل مؤشراً على أن الدولار يتجه نحو تحقيق أكبر تراجع نصف سنوي أو سنوي منذ بداية عهد تعويم العملات في أوائل السبعينيات، ليستقر عند 97.183 نقطة، قريباً من أدنى مستوى له منذ أكثر من ثلاث سنوات.
ويُرجع خبراء اقتصاديون هذا التفكك في العلاقة التقليدية بين الدولار وعوائد السندات إلى أسباب أعمق من مجرد تذبذبات سوقية، معتبراً إياه "إنذاراً بتحول جوهري في النظام المالي العالمي". فالحرب التجارية التي يقودها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عبر فرض رسوم جمركية جديدة، تزيد من الضغوط على التضخم، وتبعث رسائل سلبية للمستثمرين، ما يؤثر على الثقة في هيكلية الدين الأمريكي.
وقد صرحت "محجبين زمان"، رئيسة أبحاث العملات الأجنبية لدى "إيه إن زي بانكينج جروب"، أن ترامب سيختار للخزينة الأمريكية "شخصاً ينسجم مع توجهاته، ومن سيعلن اسمه على الأرجح سيكون ميالاً للتيسير النقدي، وهذا سيضغط أكثر على الدولار". هذا التوجه لسياسة نقدية تيسيرية، مع وجود "رئيس ظل" محتمل قبل انتهاء ولاية بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي الحالي جيروم باول، يعزز من توقعات خفض الفائدة المبكر، ما يزيد من الضغط على الدولار. رهانات المستثمرين على خفض بمقدار ربع نقطة مئوية بحلول سبتمبر القادم ارتفعت إلى 91.5%، وفقاً لأداة "فيد ووتش" التابعة لمجموعة CME.
وفي سياق أوسع، فإن السياسات الداخلية الأمريكية، مثل مشروع قانون خفض الضرائب وزيادة الإنفاق الذي طرحه ترامب، والذي يقدر مكتب الميزانية في الكونغرس أنه قد يضيف 3.3 تريليون دولار إلى الدين الوطني خلال عشر سنوات، تواصل الحكومة الفيدرالية الأميركية تراكم مستويات قياسية من الدين عاماً بعد عام، وسط مخاوف متزايدة بشأن الاستدامة المالية طويلة الأمد. إذ يبلغ إجمالي الدين الذي تدين به الولايات المتحدة للمقرضين 36.2 تريليون دولار - أرقام مايو (أيار) - وهو رقم يقترب من أعلى مستوياته التاريخية عند مقارنته بحجم الناتج الاقتصادي للبلاد - وهو مقياس أساسي لقدرة الحكومة على سداد التزاماتها المالية.
ووفقاً لصحيفة «واشنطن بوست»، فقد هيمنت قضايا الدين والعجز السنوي على جانب كبير من النقاش السياسي حول مشروع «القانون الكبير والجميل» الذي يتبناه الرئيس دونالد ترمب والجمهوريون. ويتضمن المشروع تغييرات واسعة في السياسات الضريبية والهجرة، وتسعى الأغلبية الجمهورية إلى تمريره في الكونغرس قبل الرابع من يوليو (تموز). هذا التراكم يعزز الشكوك حول استدامة النموذج الاقتصادي الأمريكي، ويُعتبر مؤشراً على بداية انهيار "قدسية" سندات الخزانة الأمريكية، التي كانت تُعد "الملاذ الآمن الأول" عالمياً.
مكتب الميزانية في الكونغرس أفاد بأن خطة ترامب الضريبية في مجلس الشيوخ سترفع ديون أمريكا بـ3.3 تريليون دولار – أكثر بـ800 مليار من نسخة مجلس النواب. مضيفا أن مشروع قانون ترامب الجديد سيضيف 3.3 تريليون دولار إلى الدين الأمريكي ليرتفع من 36.2 تريليون إلى نحو 39.5 تريليون دولار، كما سيضيف مشروع قانون ترامب الجديد للدين العام زيادة تعادل نحو 9% من إجمالي الدين العام.
في المقابل، تستغل القوى الصاعدة، وفي مقدمتها الصين، هذا التراجع في الهيمنة الأمريكية لتدعيم مكانتها في النظام العالمي، خاصة على الصعيدين الاقتصادي والنقدي. فعلى صعيد المسعى الصيني لتدويل اليوان، أنهت مؤشرات الأسهم الصينية تعاملات يوم الإثنين 30 يونيو 2025 على ارتفاع، مستفيدة من تحسن النشاط الصناعي، حيث سجل مؤشر "شنتشن المركب" زيادة قوية بنسبة 1.1%، وصعد مؤشر "شنغهاي المركب" بنسبة 0.6%، وارتفع مؤشر "سي إس آي 300" بنحو 0.35%. وفي الوقت نفسه، تراجع الدولار الأمريكي مقابل اليوان الصيني بنسبة 0.1%، مسجلاً 7.1653 يوان، ما يعكس قوة العملة الصينية وسط تحسن الأوضاع الاقتصادية.
كما أظهرت البيانات الرسمية ارتفاع مؤشر "مديري المشتريات" الصناعي في يونيو إلى 49.7 نقطة، متجاوزاً توقعات السوق، وقد أشار محللو "جولدمان ساكس" إلى تحسن ثقة المستثمرين المحليين في الصين، وفقاً لوكالة "رويترز". هذه المؤشرات الاقتصادية القوية تدعم جهود تدويل اليوان، والتي تهدف إلى تقليص الاعتماد العالمي على الدولار الأمريكي.
إن هذا التحول الجوهري في موازين القوى النقدية يكشف عن تداعيات عميقة تتجاوز الجانب الاقتصادي، إذ يمتد ليشمل الأبعاد السياسية والعسكرية، مُعززًا الرؤية نحو عالم أكثر عدلاً وتوازناً، في ظل تراجع النفوذ الجيوسياسي الأمريكي. فمع ضعف الدولار، تتقلص قدرة الولايات المتحدة على استخدام العملة كأداة لفرض العقوبات وابتزاز الدول الأخرى، وهو ما ينعكس مباشرة على قدرتها في فرض إرادتها السياسية، ما يمنح القوى الأخرى -لاسيما الواقفة في خندق المواجهة مع غطرسة الهيمنة الاستكبارية- مساحة أوسع للمناورة واتخاذ قرارات مستقلة.
وفي السياق ذاته، باتت خطوات تعزيز السيادة الوطنية للعديد من الدول، خاصة تلك المنضوية تحت مظلة تجمع "البريكس"، واضحة؛ حيث بدأت هذه الدول تنويع احتياطاتها النقدية بعيداً عن الدولار، عبر اللجوء إلى الذهب والعملات المحلية، وهو تحول استراتيجي يهدف إلى تقليل التبعية الاقتصادية للنهج الأمريكي. وبهذا، يتم تعزيز السيادة الوطنية وتقوية القدرة على مقاومة الضغوط الخارجية، ما يفتح آفاقاً أوسع للتعاون الاقتصادي بعيدًا عن مركزية الدولار وسيطرته المطلقة.
ومن الجدير بالذكر أن تراجع هيمنة الدولار يُعَّد مؤشرًا على أن العدو الأمريكي يواجه أزمات داخلية تهدد مكانته العالمية. إذ يرى محللون أن الأزمة الحقيقية للولايات المتحدة ليست فقط في التحديات الاقتصادية الخارجية، بل أيضاً في اضطرابات نظامها الداخلي، حيث يُعتقد أن الولايات المتحدة نفسها تمثل العدو الحقيقي للدولار، بسبب حالة الاضطراب التي تعصف بنظامها الاقتصادي. ويُعد هذا التدهور الداخلي فرصة حقيقية أمام القوى الصاعدة لتعزيز صمودها ومبادرتها، عبر استغلال هذه التحولات الاقتصادية والسياسية المدروسة، لتحقيق مزيد من التحدي لمصادر الهيمنة الأمريكية