موقع أنصار الله . تحليل | أنس القاضي 

المتابع لما تقوم به المقاومة الفلسطينية في غزة خلال هذا الأسبوع، والتي ترد في أخبار متفرقة، يستنتج أن هناك موجة ثورية جديدة من العمل العسكري المقاوم، وتتضح هذه الصورة إذا ما جمعت الأخبار والتصريحات المتفرقة، وتم إعادة بناء مشهد متكامل عما يجري في غزة، من تطور في الفعل المقاوم العسكري، وتنامي العمليات بالتزامن مع وهن يصيب جيش العدو و"الجبهة الداخلية" لمجتمع المغتصبين.

هذا المشهد المقاوم مؤثر بطريقة مباشرة على المفاوضات التي تجري بطريقة غير مباشرة بين المقاومة وكيان العدو، ويؤدي دوراً حاسماً في إجبار العدو على قبول الهدنة ووقف إطلاق النار، دون تجاهل أثر الإسناد اليمني في البحر وفي عمق العدو.

حرب غزة الحالية باتت حرب استنزاف مركبة للعدو، تشهد تصعيداً في تكتيكات المقاومة واختراقاتها، مقابل أزمة عميقة في استراتيجية العدو التي تبدو عاجزة عن تقديم حل عسكري أو سياسي.

وتؤكد المقاومة الفلسطينية قدرتها على إدامة المعركة وفرض كلفة بشرية ونفسية وسياسية كبيرة على الكيان، في حين يقر "جيش" الاحتلال بأن "الحسم" قد يكون ممكناً نظرياً.

في هذا المشهد، يتحول القتال إلى اختبار القدرة على الصمود وتماسك الإرادة السياسية، الأمر الذي تحققه المقاومة بكل جدارة برغم الخسائر في مجتمعها من المدنيين، فيما الصبر على حرب استنزاف من هذا النوع، أمر ينهك جيش العدو، ويؤكد على أن أوهام العدو عن "الحسم" في غزة تفوق طاقته على التحمل.

 

حرب استنزاف شاملة

العمليات التي أعلنتها فصائل المقاومة الفلسطينية -في النصف الأخير من هذا الأسبوع- تؤكد استمرار "طوفان الأقصى" في شكل حرب استنزاف ضد "جيش" الاحتلال داخل قطاع غزة، فهذه العمليات لم تعد مجرد عمليات دفاعية أو صد اجتياح، بل تحولت إلى عمليات هجومية داخل الخطوط المتقدمة لجيش الاحتلال.

فهناك معارك ضارية في مناطق مدنية معقدة، وقد تحولت إلى جبال من ركام، حيث تبذل المقاومة أقصى جهدها لاستنزاف جيش الاحتلال وإجباره على التراجع، أو دفعه للانخراط في قتال شوارع مكلف بشريا ومؤثر سياسيا على الواقع الداخلي للعدو.

تشمل تكتيكات الاشتباك التي تعتمدها المقاومة عمليات ميدانية موثقة، مثل استهداف دبابات "ميركافا" والجرافات بعبوات متطورة شديدة الانفجار أو موجهة عن بعد، واستخدام قذائف مضادة للدروع، وإطلاق قذائف على مبانٍ يتحصن بها جند العدو.

إضافة إلى ذلك محاولات أسر جنود العدو، ورغم فشلها أحياناً، فهي تحمل أثرا نفسيا مهما. كما يتسم الفعل المقاوم بتنوع كبير في الأساليب، مثل زرع العبوات الناسفة، ونصب الكمائن، واستخدام النيران المباشرة من أسلحة خفيفة، وقنص، وتنفيذ عمليات هجومية مباغتة على تجمعات الجنود، مع القدرة على المناورة في بيئة حضرية معقدة، وتحت الأرض عبر الأنفاق والبيوت المفخخة، ما يمنح المقاومة مرونة تكتيكية، ويزيد من كلفة المواجهة على الجيش المهاجم.

 

 التخطيط والاستخبارات

أشارت تقارير عبرية إلى نجاح المقاومة في جمع معلومات دقيقة عن انتشار جيش الاحتلال داخل غزة، وهو عنصر حاسم في هذه المعارك، ويعكس الهجمات الأخيرة والاشتباك المباشر.

عودة التنسيق المركزي بين القيادة في غزة والميدان، مع تعيين قادة ميدانيين جدد لإدارة جبهات القتال، وهو ما جعل المقاومة قادرة على تنفيذ عمليات معقدة منسقة، تعتمد على الاستطلاع، وتستفيد من خبرة طويلة في حرب المدن.

 

البعد النفسي:

تتبنى المقاومة في هذه المعركة خطاب "الاستمرار والهجوم"، وهو ما يعزز من المعنويات، ويثبت فكرة أن جيش العدو الإسرائيلي قابل للاختراق والهزيمة في نقاط معينة، وتبرز "البطولة" في محاولة أسر جنود، حتى عندما تفشل، يبني أسطورة عن الصمود والمبادرة، ويُعلن عن مقتل الجندي الذي كاد يُصبح أسيراً.

فيما يعترف جيش العدو بخسائر متواصلة، ووقوع الجنود في كمائن داخل ما يفترض أنه "محيط آمن" في كمين بيت حانون التي سبق للعدو إعلانها منطقة آمنة، وهذا يضرب مصداقية التقارير التي يرفعها جيش العدو عن السيطرة على هذه المناطق، ويخلق حالة من الارتياب بين الجنود وبين المخابرات العسكرية لجيش العدو.

 

التحذير من نموذج فيتنام

قارن اللواء الصهيوني "تامير هيمان" تكتيكات المقاومة بتكتيكات حروب العصابات في العراق ضد جيش الاحتلال الأمريكي، من العبوات الناسفة، والكمائن، والهجمات المزدوجة عند إخلاء الجرحى، "هي تقنيات معروفة في حرب العصابات وتتكرر اليوم في غزة".

هذه المقارنة تحمل اعترافا إسرائيليا واضحا بأن جيش الاحتلال يواجه خصما غير متماثل، يتقن قواعد حرب المدن والاستنزاف، يقاتل في أرضه.

وهذا التقدير العسكري الصهيوني والخطاب الإعلامي الذي يستحضر مـأزق قوات الاحتلال الأمريكية في فيتنام والعراق، يؤثر على معنويات جمهور المستوطنين وقوات الاحتياط وجنود العدو في غزة ذاتها.

 

الجدل السياسي الإسرائيلي الداخلي

وصفت الصحيفة العبرية "يديعوت أحرونوت" الحرب بأنها "استنزاف بلا نصر"، وانتقدت نتنياهو على سفره إلى الولايات المتحدة، واعتبرتها "دعاية" بينما الجنود يموتون يوميا.

تتهم الصحافة العبرية "حكومة" نتنياهو بأنه ليس لديها خطة واقعية لغزة، فهي ترفض حكم حماس، وترفض حكم السلطة الفلسطينية، وتخشى فرض الحكم العسكري الاحتلالي المباشر.

هذه الأزمة السياسية الداخلية تضعف قدرة "حكومة" العدو على تقديم رؤية استراتيجية واضحة، وتزيد من احتمالات تحقق النموذج الفيتنامي الذي يخشونه.

 

الأزمة النفسية في صفوف جيش الاحتلال

أدى طول أمد العدوان من العام 2023م، والعمليات التي تقوم بها المقاومة إلى أضرار نفسية واضحة على جيش العدو، فهناك أرقام صادمة لمجتمع المستوطنين، فالحديث يدور  عن أكثر من 19 ألف جريح في جيش العدو، وأكثر من 10 آلاف يعانون من اضطرابات نفسية، وهذه الأرقام، وإن كانت غير دقيقة، فهي كارثة بالنسبة للعدو، مقارنة بالكثافة السكانية المتدنية للغاصبين.

وهناك فتح لقضية تجنيد مصابين باضطرابات ما بعد الصدمة في قوات الاحتياط، التي تثير جدلا عاصفا في "الكنيست" والمستوطنين ، وقصص مثل انتحار "إليران مزراحي" -وهو أخر جندي ينتحر في هذه اليومين-، تعكس هذه الحادثة الكلفة النفسية التي يدفعها جيش العدو.

هذا البعد الاجتماعي النفسي يمثل "قنبلة موقوتة" كما وصفها الإعلام العبري، تهدد "الجيش" والمستوطنين ، وتزيد كلفة الحرب.

 

أزمة الأسرى:

صرح "رئيس الأركان" الصهيوني "أيال زامير" بأن الظروف متاحة لصفقة تبادل أسرى، رغم استمرار العمليات، كما اعترف بأن استعادة الأسرى وحسم المعركة هدفان صعبان، بدورها فإن المقاومة تستثمر هذه الورقة لزيادة الضغط السياسي والاجتماعي على العدو.

وباتت هناك قناعة راسخة لدى المستوطنين، ولدى الوسطاء والأطراف الدولية، ولدى المستويات الأمنية والعسكرية الصهيونية، أن السبيل الوحيد لاستعادة الكيان أسراه هو في وقف الحرب العدوانية على غزة، وهذا الأمر لم يستطع اليمين الصهيوني الفاشي أن يتقبله، ويعيق مساعي وقف إطلاق النار.

 

التداعيات:

في البعد الجيوسياسي، تثبت المعارك أن الدعم الأمريكي المعلن للكيان لم يترجم إلى حل استراتيجي للمعركة، فيما تواجه لقاءات نتنياهو بترامب في واشنطن انتقادات داخلية واسعة، تصفها بأنها مجرد "علاقات عامة" بلا نتائج ملموسة. كما يفاقم الوضع الإنساني في غزة واحتمال التهجير الواسع في رفح المخاوف الأخلاقية والقانونية الدولية، ويعمق من عزلة الكيان السياسية على الساحة العالمية.

استمرار هذه العمليات من قبل المقاومة، وغياب حل سياسي واضح، والجمود في المفاوضات حول الأسرى، يزيد من احتمال استمرار الحرب، وتورط جيش العدو في استنزاف بشري مستمر لن يستطيع تعويضه ميدانيا بسهولة، ولا تحمل تداعياته اجتماعيا وسياسياً.