في مشهد استثنائي لا تُخطئه عين ولا تغفله روح، نهضت صنعاء اليوم كأنها روحٌ واحدة، تنبض بحبٍ عميق، وتتهجد في محراب الذكرى العطرة لمولد سيّد الخلق محمد صلوات الله عليه وعلى آله.
اليوم، لم يكن يوماً عادياً في اليمن؛ فقد تنفّست الأرض، واهتزّت الجبال، وامتدّت السماء بظلها لتشهد كيف يحتفل شعب الإيمان والحكمة برسول الرحمة، وكيف تتجلّى مشاهد الولاء في أوضح صورها وأجملها.
لم تكن الشمس ساطعة كما جرت العادة، بل تلحّفت صنعاء بوشاحٍ من السحاب، وكأن السماء نفسها تُهيّئ الأجواء لهذا العرس النبوي المبارك، وتشارك اليمنيين أفراحهم، إكرامًا لمن أشرقت بنوره الأرض والسماء. الحرارة غابت، والبرد لم يحضر، والجو بدا وكأنّه صُنع خصيصًا لهذا اليوم: لطيف، خفيف، خاشع، تمامًا كما هي القلوب التي حضرت.
كانت العاصمة صنعاء ــ قلب اليمن النابض ــ كأنها درّة خضراء، تكلّلت برايات الحب، وتزيّنت بالأضواء التي تنطق بالصلاة والسلام على النبي الأكرم وآله. من أطراف المدينة إلى وسطها، من أعالي الجبال إلى أحياء الحارات، تردّد صدى الصلاة على النبي، لا من المآذن وحدها، بل من كل زاوية: المحلات، من الباعة، من الميكرفونات المعلقة في كل مكان، وكأن كل ذرة في هذا البلد تحتفل وتصلّي وتفرح.
منذ ساعات الفجر الأولى، شهدت شوارع صنعاء حركةً غير معتادة. آلاف السيارات المتجهة إلى ساحة الفعالية الكبرى، رجالٌ ونساءٌ، شيوخٌ وأطفال، كلهم يحملون رايات خضراء وقلوباً بيضاء، جاؤوا ليعلنوا ـــ على رؤوس الأشهاد ـــ أن حب محمدٍ لا يُقهر، وأن نور رسالته لا يُطفأ.
ساحة السبعين، التي احتضنت الفعالية الكبرى، بدت كأنها بحرٌ من البشر، وأمواجٌ من الأوفياء. لقد امتلأت عن آخرها، وتخطّت حدود التقدير، وكان التنظيم راقياً، يليق برسالة هذه المناسبة وقدسية رمزية الحضور. وتحوّل ميدان السبعين، إلى لوحة إيمانية مهيبة، يتوسطها اسم النبي محمد صلوات الله عليه وآله وسلم، في دلالة واضحة على ما يحتله من مكانة عظيمة في نفوس ووجدان أحفاد الأنصار الذي قال عنهم الرسول الأعظم " الإيمان يمان، والحكمة يمانية".
وبدا المشهد المحمدي الاحتفالي أكثر بهاءً، حيث ملأت الحشود الهادرة ميدان السبعين والشوارع المحيطة به، وهتفت بالأهازيج والمدائح النبوية، في أجواء إيمانية وروحانية مفعمة بالفرح والاعتزاز.
ونظرا لكثرة الحشود لم تستطع عدسات الكاميرات الإلمام بكافة تفاصيل المشهد المحمدي الأكبر الذي امتد لعدة كيلو مترات، متزينا بالألوان الخضراء والرايات المحمدية البهيجة، واللافتات التي تحمل شعارات المحبة والوفاء للرسول الأعظم، في مشهد يمني خالص لشعب يزداد ارتباطًا وتمسكًا بخير البرية، ويتصدر الشعوب في الاحتفاء بذكرى مولده.
وفي أجواء إيمانية وروحانية بالغة العظمة، رددت الحشود المليونية مع الفرق الإنشادية الموشحات الدينية (طلع البدر علينا.. من ثنيات الوداع.. أيها المبعوث فينا.. جئت بالأمر المطاع)، (مرحبا مرحبا ببدر التمام)، وغيرها من الموشحات والأناشيد المعبرة.
كما ألقى الشاعر عبدالسلام المتميز قصيدة بعنوان "ذكرى النبوة" عبر من خلالها عن واقع الأمة وما آل إليه وضعها نتيجة ابتعادها عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما تميز به اليمن من موقف جهادي إيماني متفرد في نصرة قضايا الأمة.
الخدمات الصحية متوفرة، الأمن مُحكم، والناس يتعاونون بحب، وكأن روح النبي تظلّل هذا الجمع المهيب، وتباركه من علٍ.
اليوم، لم يكن مجرّد احتفال. لقد كان إعلاناً صريحاً متجدداً عن هوية شعب، وولاء أمّة، ووفاء لا تحدّه التحديات، ولا تزعزعه الحروب. هذا الحضور المليوني هو شهادة جديدة بأن اليمن، بجباله وسواحله، لا يزال يحمل راية الإيمان كما ورثها عن الأنصار الأوائل.
من كل قرية ومدينة، جاء الناس يلبّون نداء الحب، لا إجباراً، بل شوقاً وافتخاراً. ورغم العدوان، والحصار، والظروف الاقتصادية الخانقة، خرجوا كما يخرج العاشق للقاء محبوبه، لا يرى في التعب مشقة، ولا في المسافات طولا، لأن روح محمد ترفرف في سمائهم، وتسكب في قلوبهم برد اليقين.
ولم تكن المناسبة مجرد مظاهر خارجية، بل موسمًا للتربية والارتقاء. فمنذ أيام، أقيمت الفعاليات والمحاضرات، وانتشرت الأنشطة الثقافية والخيرية في كل حي، وفي كل مدرسة، وجامع، ومؤسسة.
تعلّم الناس من سيرة رسولهم القيم، ونهلوا من نوره الهداية، واكتسبوا من أخلاقه التربية، وجعلوا من ذكراه منطلقاً عملياً للسير على هديه، وللاقتراب أكثر من القرآن الذي جاء به، ولتجديد العهد معه على الولاء والطاعة والمحبة والاقتداء.
لقد تحوّلت ذكرى المولد النبوي في اليمن إلى مدرسة سنوية مفتوحة، يتربى فيها الناس على الوعي والبصيرة، ويتعلمون فيها معنى أن يكون رسول الله هو القائد والمعلم، والقدوة والمنهاج.
وإذا نظرت من أعلى، رأيت صنعاء وهي تغتسل بالأخضر، ليس في الساحات فحسب، بل في تفاصيل الحياة اليومية: السيارات مزينة بشعارات "لبيك يا رسول الله". المحلات تضع لافتات مباركة، وتقدّم خصومات احتفاءً بالمناسبة. الطرقات مزينة، والمآذن تتلألأ بالأضواء الخضراء.
الأطفال يرتدون الأوشحة، ويحملون الأعلام. كأن كل شيء في اليمن نطق بـ"محمد"، وهتف بالصلاة عليه، حتى الجدران والشوارع تنطق بحبّه!
مساء الأمس كانت سماء صنعاء على موعد مع لحظة وجدٍ جديدة. أطلقت الأعيرة النارية للابتهاج وكانت زخّات الضوء التي انبعثت في السماء، كأنها نجومٌ تهتف هي الأخرى بحبّ الرسول. احتفل الناس، تبادلوا التهاني، امتلأت المجالس بالكلمات والصلوات، وكأن الدنيا كلها تتنفس من عطر هذه الذكرى التي تعيدنا إلى النور الأول، إلى لحظة ولادة خير من وطئ الثرى، محمد بن عبد الله صلوات الله عليه وآله.

وهكذا، لم يكن المولد النبوي في اليمن مجرد مناسبة؛ بل كان بركاناً من الحب، وصرخة ولاء، وموقف صمود في وجه كل طاغية يتربّص بالنبي الأعظم، وبرسالة الإسلام.
يقول اليمن للعالم "نحن أحفاد الأنصار، شعبٌ لا تنكسر إرادته، ولا يذلّ صبره، ولا يُساوم على دينه. نقف في وجه الطغاة لا من أجل الدنيا، بل لأننا استمددنا الصبر من رسول الله، والثبات من كتاب الله، والعزة من قول الله تعالى:{قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}."
ولأن هذا الشعب قد عمّد ولاءه بدماء الشهداء، وعبّر عن انتمائه في كل لحظة، فهو اليوم يرتقي في مدارج الإيمان، ويحتفل برسول الله احتفال الواثقين المنتصرين، فيا رسول الله: ها هو شعبك في اليمن يزف إليك الحب والولاء، ويجدد البيعة، ويثبت على الطريق، ويا من قال عنهم: "الإيمان يمان والحكمة يمانية"، ها هم اليوم، على العهد باقون، وبنورك سائرون، وفي ذكراك متمسكون.
