موقع أنصار الله . تقرير
في ظل هذا الواقع المظلم، المملوء بالجراح والانكسارات، تقف أمتنا الإسلامية حائرة بين أمجادٍ مضت، وأوجاعٍ تتجدد. وكلما اشتدّ عليها الخطب تاهت في دهاليز الحلول المستوردة، وتكالبت عليها الأمم كما تتكالب الأكلة على قصعتها. لكنها -رغم كل هذا التيه- تملك بين يديها نورًا لا ينطفئ، وسبيلاً لا يضل سالكه: نهج رسول الله محمد صلوات الله عليه وآله.
فإنّ هذه الأمة، التي حملت مشعل الهداية للعالمين، لا يمكن لها أن تنهض من كبوتها، ولا أن تتعافى من جراحها، ولا أن تنعتق من أغلال الظلم والتبعية، إلا بما صلح به أولها: بالعودة إلى منهج النبوة، إلى القرآن وهدي سيدنا محمد، إلى الإيمان الصادق، والجهاد الصابر، والعدل الشامل، والتكافل الحقيقي، والتزكية الربانية.
ونحن نعيش أجواء المولد النبوي الشريف، ذكرى مولد خير الأنام، محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، تشرق علينا أنوار الهداية من جديد، وتدعونا إلى لحظة وعي صادقة، نستلهم فيها من عظمة المناسبة دروسًا نحتاجها اليوم أكثر من أي وقت مضى. فليست الذكرى مجرّد احتفال تاريخي أو مناسبة عابرة تمرّ كما تمرّ المناسبات، بل هي فرصة ثمينة لمراجعة النفس، وتقييم الواقع، وإعادة تصويب المسار الذي طال انحرافه، وتعمّقت فيه الجراح، خاصة وأن الأمة الإسلامية تعيش أسوأ لحظاتها نتيجة العربدة الأمريكية الإسرائيلية، في ظل السعي الحثيث لتوسيع معادلة الاستباحة للمنطقة.
تمرّ أمتنا الإسلامية اليوم بمرحلة دقيقة وخطيرة من تاريخها، مرحلة تتخللها الانقسامات العميقة، والصراعات العنيفة، والانحرافات الجذرية التي دفعت بها إلى مهاوي الفتن والتبعية والضياع. فكم من أبنائها اليوم يسيرون تحت رايات الطغيان والعدوان، بل ويشاركون العدو الإسرائيلي في إجرامه الفظيع ضد الشعب الفلسطيني دون وجل ولا حياء، رافعين لواء النفاق والفتنة في خدمة مشاريع الأعداء.
وما بين الانحراف السافر والتقصير القاتل، تاه الكثير عن حقيقة الإسلام، وتشوهت معالم الرسالة، وذابت الهوية الإيمانية في مستنقعات التبعية والانهزام. ولذلك فالأمة بحاجة -في ظل هذه الفتن- إلى أن تعود إلى منبع النور، إلى السراج المنير، إلى من أرسله الله هاديًا ومبشرًا ونذيرًا: رسول الله محمد صلوات الله عليه وعلى آله، لتجعل من ذكراه منطلقًا لإحياء الهوية، وإعادة الروح إلى جسد الأمة المتهالك، وتصحيح البوصلة نحو مشروع حضاري إيماني يقوده رسول الله، لا مشاريع زائفة تقودها قوى الطغيان والاستكبار، خاصة وأن البلطجة الأمريكية الإسرائيلية شملت معظم البلدان الإسلامية.
لقد جرّبت أمتنا الإسلامية -في مسيرتها المعاصرة- شتى أنواع الحلول، وتعلقت طويلاً بحبالٍ واهيةٍ من السراب، وظنّت أن دعوات السلام الزائفة، ومبادرات الأمم المتحدة الباردة، وقرارات مجلس الأمن الخاوية، ستنتشلها من ظلم الطغيان الأمريكي الصهيوني، لكن الحقيقة ظهرت جلية، بعد أن تكشّفت الأقنعة، وسقطت الأوهام؛ فما ازداد العدو الإسرائيلي إلا صلفًا وغرورًا، ولا ازداد الواقع إلا انحدارًا وانكشافًا.
العدو الصهيوني يعربد في أرضنا، ويدنّس مقدساتنا، ويقصف شعوبنا، ويستهدف أمتنا الإسلامية بكل وقاحة، مدعومًا -بلا خجل- من الولايات المتحدة، التي جعلت من أمن هذا الكيان المجرم عقيدة سياسية لها، ترعاه بالسلاح، وتحميه بالفيتو، وتغذّيه بالدعم المطلق سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا.
وفي المقابل، فالأمة صامتة، متفرقة، مستسلمة، لا موقف جامعًا لها، ولا كرامة يُذاد عنها، ولا حرمة تُصان. أنظمة كثيرة باعت مواقفها تحت شعارات التعايش، والتطبيع، والانفتاح، بينما العدو قد تنصّل حتى من تلك الاتفاقيات الهزيلة التي وقّعها في سابق السنين، ولم يترك من ورائها سوى وثائق مهترئة ووعود كاذبة.
لقد فشلت كل محاولات الاسترضاء، وكل شعارات السلام، وسقطت كل المنابر الدولية التي تاجر بها العالم طويلاً، فالأمم المتحدة لا تسمع أنين الأطفال في غزة، ومجلس الأمن لا يرى الدمار في صنعاء، والجامعة العربية لا تجتمع إلا على الفراغ.
فما عادت الأمة تملك من خيارٍ إلا العودة إلى نهج رسولها، إلى القوة في الحق، وإلى الوعي برسالتها، وإلى الثبات على مبادئها، فذلك وحده طريق الانعتاق من قبضة الأعداء، ودرب التحرر من الاستكبار العالمي.
لقد كانت البشرية على شفا حفرة من النار، تموج في ظلمات الجاهلية، وتغرق في بحور الضلال، حيث الشرك والفساد، والطبقية والظلم، والفوضى الأخلاقية والفكرية تسود المجتمعات بلا استثناء. العالم -قبل البعثة- كان غابةً من التوحّش، تعبد فيها الأصنام، وتُسفك الدماء بغير حق، ويُوأد فيها الأطفال، وتُغتصب فيها الحقوق، بلا رادع من ضمير أو وازع من دين. وفي لحظة فارقة، جاء النور من السماء، في شخص النبي الأكرم، حبيب الله ومصطفاه، حامل كتاب الله، ورحمة الله المهداة للعالمين. فكان مولده بداية لفجر جديد، وقيامه بالرسالة إعلانًا لنهاية الظلام.
لقد أخرج رسول الله صلوات الله عليه وآله البشرية من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الضلال إلى عدل الإسلام. فكانت بعثته أعظم نعمة أُهديت للبشرية، وأكبر منّة امتن الله بها علينا، كما قال سبحانه: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ...} [آل عمران: 164]. فلولا هذا النبي لظلّت البشرية في تيه الجاهلية، تتخبط في ظلام الباطل، وتمارس كل أنواع الفساد بلا وعي أو نور. ولولا هداه، لضلّ الإنسان طريقه إلى ربه، وتحوّل إلى وحش كاسر في هيئة بشر.
إن أبلغ وصفٍ يليق برسول الله صلوات الله عليه وآله هو ما نطق به القرآن الكريم: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] فهو رسول الرحمة، ومنبثقها، ومجسّدها في كل حركة وسكنة، في هديه، في أخلاقه، في تشريعه، في سيرته وسلوكه.
الرحمة في الإسلام ليست شعورًا عاطفيًا ساذجًا، بل مشروع حياة متكامل، رحمةٌ في التشريع: في أوامر الله ونواهيه. رحمةٌ في النظام الاجتماعي: بالتكافل والعدل. رحمةٌ في العقيدة: بتوحيد الله وإلغاء الوسائط. رحمةٌ في السياسة: بتحقيق الكرامة والحرية. رحمةٌ في الجهاد: بنصرة المظلوم وردع الظالم.
وقد تجلت هذه الرحمة في منهج النبي، حين أرسى دعائم الأخلاق، وبنى مجتمعًا عزيزًا شامخًا، متراحمًا متكافلًا، لا مكان فيه للظلم أو الفساد، ولا موطئ قدم فيه للطغيان أو الاستعباد، فحري بالأمة أن تعود إلى ذلك العز والمنعة إن أرادت الانعتاق مع التسلط الأمريكي الصهيوني.
وهكذا، فإن كل طريقٍ غير طريق رسول الله صلوات الله عليه وآله، وكل مشروعٍ لا يستقي من نبع النبوة، مصيره الفشل مهما زيِّن بالشعارات أو زخرف بالآمال. إن الأمة التي تريد أن تتحرر من الظلم، وأن تنجو من السقوط، لا بدّ لها أن تعود إلى أصل عزتها، ومصدر قوتها؛ أن تقتدي بسيد الخلق، وتتبع نهجه في القول والعمل، في الحرب والسلم، في السياسة والأخلاق، في الروح والفكر. فما صلح به أول هذه الأمة هو وحده القادر أن يُصلح آخرَها، ولن تجد بديلاً عن النور الذي أشرق من مكة، وعمّ العالم برحمة نبي الرحمة. {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور: 54]. {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].