موقع أنصار الله. تقرير | وديع العبسي

عصف"الربيع العربي" بالمنطقة، حتى باتت مكشوفة ومرشحة لكثير من التحولات بتفاصيل غربية استعمارية. نجح المخطط الاستعماري في إحداث الفوضى الهدّامة التي صادرت آمال وطموحات الشباب العربي الذي خرج إلى ساحات التظاهر والاعتصام بحثًا عن مستقبل آمن. وفي هذا الوقت كان الحُكْم على اليمن قد أخذ صيغة "الدولة الفاشلة"، وهي العبارة التي ترددت بعد ذلك كثيرًا على ألسن المراقبين والمحللين، كاشفة عن حقائق لم يكن هناك مَن يشأ مواجهتها، وهي أن الواقع اغترب فعليًا عن طموحات ثورة 26 سبتمبر، رغم مرور عقود على قيامها، وصار المستقبل مجهولاً، وفي أحسن الأحوال محدَّدًا بأطر تضعها قوى الهيمنة.. إقليميةً ودوليةً.
إثر ذلك لم يكن مستغربًا دخول البلد في دوامة من الفوضى والانفلات،تحركها أيادٍ وأطماع خارجية لضمان إبقاء البلد تحت دائرة الهيمنة، وصارت ملاذات الطموحات ببلد يتجاوز حالة التخلف المستدام، أبعد، ففي العام 2013 كان الوضع قد وصل حَدًّا بالغًا من الانهيار، والصراعات الضيقة، فيما كانت مجموعة الدول العشر قبل أن تتفرد أمريكا بالقرار، هي مَن ترسم سياسة الدول بالشكل الذي يضمن لها مصالحها، ويترك الشعب اليمني غارقًا في صراعاته وهمومه.
ولما بدأ التحرك الشعبي يأخذ مسارًا تصاعديًا في اتجاه وضع حَدٍّحاسم وقاطع لهذا الانحدار كانت الأرضية الشعبية قد تهيأت وأصبحت جاهزة لوضع خيارين أمام الحُكَّام، إما بلد غير مرتهن لأي قوى، بما يعنيه ذلك من إلغاء لكل السياسات التي فرضها هذا الارتهان، وإما الاستمرار في التصعيد الثوري، لينتهي الأمر إلى قيام الثورة في مسعى لتلبية تطلعات الشعب بتحقيق التحول الكفيل بالخروج من ذاك الحال المتهالك.
وفورًا اتجهت الثورة إلى تعزيز الجبهة الداخلية، وتوحيد الصف الوطني، وإعادة الثقة إليه، ليصير الشارع اليمني صمام أمان الثورة من الانزلاق في متاهات الانتقام أو "تَفَيُّد" المؤسسات، وحينها ظهرت حالة استثنائية من الشعور بالمسؤولية، ارتقت بسلوك الثوار في حفظ الأمن والممتلكات، وتسيير أعمال المؤسسات بشكل طبيعي.

مثّل مجيء ثورة (21 سبتمبر) نتاجًا طبيعيًا لتفاعلات رَفْض النفوس التواقة لبلد مستقل فعليًا، مع ما يشهده واقع الحال من تَرَدٍّ وتخلف في كل المجالات. لم يكن اليمن بذاك الوضع استثناءً، فجميع دول المنطقة العربية والإسلامية كانت ولا تزال تعيش حالة استلاب لإرادتها وسيادتها وطموحاتها وتطلعاتها، إلا ما أذنت به قوى الهيمنة كحالٍ تم تحديده، بأن تبقى الأمة العربية والإسلامية، أمة متخلفة تعيش بما ينتجه الخارج، وتتحرك في المساحة التي تحظى بها من رضى تلك القوى، لذلك ظلت إمكانات الواقع تستثير نفوس الأحرار للتحرك الجاد من أجل صياغة تعريفات جديدة للسيادة وحرية اتخاذ القرار بالاستناد إلى الإرث الثقافي والحضاري للأمة.
ووُلدت الثورة على أيدي الأحرار للخروج من تلك الأُطُر الضيقة التي أريد للأمة كلها أن تبقى تدور فيها على غير هدى، وحددت الثورة لمسارها جملة الأهداف الوطنية التي لم تبتعد عما قامت لأجله ثورة 26 سبتمبر، وإنما وضعت رؤيتها العملية لتصحيح مسار تلك الأهداف إلى واقع ملموس يدركه الناس كحقائق واقعية. إلا أن أعداء الشعب اليمني كان لهم رأي آخر، إذ حاولوا بكل قوة محاصرة الثورة الوليدة من أجل إجهاضها ووَأْدها في مهدها، تدفعهم أطماعهم ومخاوفهم، وقناعاتهم بأن رؤية هذه الثورة لمفهوم السيادة والتحرر لا تستقيم مع الوضعية المرسومة لهذا البلد، وبالتالي فإن استمرارها يعني صعوبة السيطرة عليه.
يقول محافظ عدن طارق سلام: إن دحر الأطماع الدولية لم يكن مهمة سهلة، فقد واجهت الثورة تحديات جساماً، تمثلت في تحالفات إقليمية ودولية حاولت بكل قوتها إجهاض هذا المشروع الوطني التحرري. لكن إصرار الشعب اليمني، وصموده الأسطوري، ووعيه العميق بحجم المؤامرة، كانت كفيلة بتحطيم كل تلك المخططات. لقد أثبتت ثورة 21 سبتمبر أن إرادة الشعب أقوى من كل أساطيل الغزاة ومؤامرات المتآمرين.

تحرُّك لإيقاف نزيف الوطن

الرغبة الأكيدة للأحرار لإيقاف نزيف الوطن كان من الطبيعي أن تصطدم بواضعي ومُحركي مخطط التخلف، الذين تداعوا على المستوى الدولي للقاءات أرادت تدارك هذا المارد اليمني قبل أن يكتمل طور ولادته الجديدة، فالأمر يمثل مخاطر على مصالحهم، ويسحب من أيديهم ورقة استراتيجية استنادًا إلى ما يتمتع به اليمن من ميزات تجعل منه بلدًا محوريًا. فكان الوطن على موعد مع عدوان بربري عَبَثي كشفت تفاصيله عن عدائيته لليمن ولليمنيين، إذ عَمَد إلى القتل المفتوح، وتدمير البنية التحتية، ومحاصرة وتجويع الشعب. إلا أن كل ذلك لم يتمكن من ثني الشعب الثائر عن ثورته، وهو يرى فيها ملاذًا أخيرًا لصنع الواقع المتطور والقابل لإحداث نقلات تطويرية مستمرة.
شهد العدوان أطوارًا من العنف والمؤامرات بقصد إخضاع الشعب لمخطط الهيمنة، فكان ذلك -بذاته- بمثابة مؤشر على تأثير قرار التحول الذي اتخذه الشعب اليمني، لتبرز حينها واحدة من ثمار الثورة، تمثلت في الثقة بالذات ومواجهة عدوان واسع النطاق، شاركت فيه دول بشكل مباشر (أمريكا، بريطانيا، السعودية، الإمارات، وأخرى)، وباقي الدول بالتواطؤ من خلال الصمت، فأثمرت المواجهة عن ولادة يمن قوي قادر على الدفاع عن نفسه، وتلقين الأعداء دروسًا في الصمود والثبات، وفي الاقتدار على إيلام العدو، وخلال ثمانية أعوام من القصف المستمر مدعومًا بحصار خانق، لم يتمكن أعداء الشعب اليمني من تحقيق أي إنجاز يذكر، بل إنهم ساهموا في شحذ همة اليمنيين للعمل بكامل الطاقة لامتلاك أدوات الردع، ومن ثم وضع خيارات استراتيجية، وفرض معادلات للمواجهة كان من نتائجها طلب العدو للهدنة.
ومثّلت سنوات العدوان تجربة عملية لترجمة الشعور بالعزة والكرامة، وامتلاك الإرادة والقرار، إلى تحرك دفاعي عن سيادة البلد ومقدراته، فألجم ذلك الأعداء وأخرس آلة القتل، فالضربات الموجعة التي وجهتها القوات المسلحة دفعت دول العدوان لإعادة الحسابات، خصوصًا وهي التي أثبتت بأنها غير مستعدة لتحمل أي ضربة يمكن أن تستهدف منشآتها. فيما اقتنع الأمريكي أن المعركة قد تجاوزت ما تستحقه لجهة الزمن الكافي لإنهاء المعركة، وبالتالي فإن القادم سيكون على حساب أمن دول العدوان، وعلى حساب المصالح الأمريكية في هذه الدول، وهو ما لم يكن بوسع واشنطن التفريط به.

ارتباط الثورة بالقضية الفلسطينية

من لحظة انبلاجها، أعلنت الثورة ارتباطها الطبيعي بقضية الأمة (فلسطين)، وكان ذلك واحدًا من المثيرات والتوجهات التي كانت تخشاها أمريكا و"إسرائيل"، فمثل هذا الأمر ينسف كل جهود العقود الماضية التي عملوا فيها على تمييع القضية الفلسطينية وطمسها من اهتمامات الشعوب العربية والإسلامية، وإضعاف الدول من أن يكون لها أي قدرة على تنفيذ أي تحرك عملي مع الشعب الفلسطيني.
لم يُخيِّب الشعب اليمني وثورته ظن ومخاوف أمريكا و"إسرائيل"، وكشفت المواجهة الحالية مع الكيان الصهيوني بأن اليمنيين لا يجيدون النفاق والمزايدة، وإنما ينطلقون من إيمان حقيقي بوجوب نجدة المسلم المستضعف والمظلوم. وحين حرك العدو الصهيوني جنبًا إلى جنب مع أمريكا عتادهم العسكري متكلين على منهجية عقائدية محرَّفة لإبادة أبناء غزة، واستهداف اليمن، تحرك اليمنيون متكلين على الله. ومشاهد عامين من المواجهة كشفت عن علو صوت الحق، وغرق أهل الباطل في المخازي.